البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السابع: الفتوى والعلاقات الدولية

المبحث الثالث: نماذج إفتائية في باب العلاقات الدولية

111 views

ساهمت الفتوى في بيان بعض مسائل السياسة الشرعية الخاصة بالعلاقات الدولية، وقد صدرت في هذا الصدد العديد من الفتاوى من خلال هيئات الفتوى المختلفة في البلاد الإسلامية، نذكر منها ما يأتي:

1فتوى دائرة الإفتاء الأردنية عن حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين:

فقد سئلت دائرة الإفتاء الأردنية عن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المشْرِكِينَ»، وما الحكم المستمد منه لمن يريد الدراسة أو العمل؟

فجاء في الجواب: أن الأصل في المسلم المعاصر أن يكون نموذجًا يحتذى في كل البلاد التي يرتحل إليها، وذلك بمحافظته على هويته وقيمه، واستفادته من ميزات المجتمع الذي انتقل إليه، ويكون بذلك عضوًا فعالًا وسفيرًا مشرفًا، خاصة إذا اكتسب حريته الدينية بإقامة شعائر دينه كالصلاة والصيام والزكاة، واجتناب المحرمات الكبائر كشرب الخمر وأكل الخنزير والزنا، فلا حرج عليه في البقاء في تلك البلاد، وسد حاجته للدراسة أو العمل أو الدعوة إلى الإسلام أو الهرب من اضطهاد ونحو ذلك.

أما إذا خشي على نفسه الفتنة في التزامه أو في عقيدته، ولم يتمكن من امتثال أركان دينه، فلا يحل له البقاء في تلك البلاد، سواء كانت بلادا إسلامية أم غير إسلامية، وعلى هذه الحالة الثانية حمل العلماء الحديث المذكور في السؤال، وقالوا المقصود به هو من لم يأمن على دينه([1]).

3-فتوى دار الإفتاء المصرية عن التجنس بجنسية غير إسلامية:

وأما عن حكم تجنس المسلم بجنسية دولة غير مسلمة فقد صدرت أكثر من فتوى لدار الإفتاء المصرية تناولت هذا الحكم، ونورد هذه الفتوى التي فصَّلت هذه المسألة، حيث سئلت الدار: يقوم بعض المسلمين بالتجنس بجنسية بلد غير مسلم؛ كدول أوربا وأمريكا، ونتيجة هذه الجنسية أن يصير محكومًا من قبل رئيس وحكومة وقوانين غير إسلامية، فما حكم الإقدام على هذا العمل؟

فجاء في الجواب: أن الحكم في هذه المسألة ينبني على دافع الهجرة والتجنس، وكذلك على الوضع الحقيقي للدولة المهاجر إليها، فقد يكون إقدام الفرد على هذا الفعل فرضًا عينيًّا مثل: فرار المرء بدينه، ولا يتحقق ذلك إلا في هذه الدولة أو مثلها، ودليله قول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]. فبينت الآية أن “الضرورات تبيح المحظورات”.

وقد يكون السفر ويتبعه التجنس من أجل الحصول على شيء مباح؛ مثل طلب الرزق، وقد يكون مستحبًا أو واجبًا كفائيًّا؛ مثل: الحصول على علوم يحتاج إليها المسلمون.

وهناك صور أخرى تأخذ حكمها من النظائر التي ذكرناها.

أما بخصوص التجنس بجنسية دولة يضيق عليه فيها في عقيدته، كبعض الدول التي تنكر الدين إنكارًا تامًّا؛ فلا يجوز التجنس بجنسيتها، إلا إذا أخذ الجنسية من أجل الحصول على جواز سفر منها، ثم يهاجر إلى دولة أخرى.

أما السفر إلى دولة فيها حرية التدين في الغالب ولا يكون لها تأثير على عقيدته وديانته فلا بأس في هذه الحالة بالتجنس، ويدور الأمر في هذه الحالة على الجواز أو الاستحباب أو الوجوب، بحسب الحالة كما تقدم، ويستمر الحكم ما لم تتغير الأحوال إلى ما يدعو إلى تغيره.

وقد ردَّت الدار على حجج المانعين من إقامة المسلم في البلاد غير المسلمة، والتي من أشهرها قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].

ووجه الدلالة: أن البقاء في البلاد التي لا يستطيعون فيها ممارسة شعائر دينهم ويضيق عليهم فيها، يُعد من الاستضعاف المنهي عنه.

وقد أجابت الدار بأن هذه الآية ليس فيها حجة لما ذهبوا إليه؛ لأن الاستضعاف في واقع أمرنا قد يكون في بلاد المسلمين نفسها، وقد يكون الأمر فيه سعة خارج بلاد المسلمين أحيانًا! فالعبرة بالموطن الذي يستطيع أن يقيم المرء فيه دينه.

قال الإمام البيضاوي في “تفسيره”: [وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه]([2]).

وقد أوردت الفتوى تفصيل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” الكلام عن هذه الآية الكريمة، وقد أوردت الفتوى نص كلام ابن عاشور كاملًا، وهو قوله([3]): [وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة؛ لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»، قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرًا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر؛ فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902م وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016م.

الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.

الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر “المدونة” في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعُتْبِيَّة، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة، وكذلك عبد الحميد الصائغ المازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويًّا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز؛ لأنهم يهينون المسلمين.

الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.

الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.

الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلًا، وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدًا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضًا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين.

ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية]([4]).

3-قرار المجمع الفقهي حول موضوع: «مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين»

فقد جاء في نص هذا القرار: أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة من 22 إلى 27 شوال 1428هـ، التي يوافقها 3 إلى ـ8 نوفمبر2007م قد نظر في موضوع: “مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية” وهو من الموضوعات التي جرى تأجيل البت فيها في الدورة السادسة عشرة المنعقدة في الفترة من 21 إلى ـ26 شوال 1422هـ لاستكمال النظر فيها.

وبعد الاستماع إلى ما عرض من أبحاث، وما جرى حولها من مناقشات ومداولات قرر المجلس ما يلي:

  1. مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
  2. يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها لغلبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وفق الضوابط الآتية:

أولًا: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم.

ثانيًا: أن يغلب على ظن المشاركين من المسلمين أن مشاركتهم تفضي إلى آثار إيجابية، تعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دفة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.

ثالثًا: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه.

4-فتوى دار الإفتاء المصرية عن تنصيب المفتي والأئمة من قِبَل الحاكم في دولة غير مسلمة:

وقد استفادت من قرار المجمع الفقهي دار الإفتاء المصرية، فنجدها تورد هذا القرار في فتواها عن تنصيب المفتي والأئمة من قبل الحاكم في دولة غير مسلمة، وعن تقاضيهم رواتبهم من الدولة التي رئيسها غير مسلم؛ فقد جاء في هذه الفتوى: أن تولي المناصب من قِبَل الحكومة داخل الدولة غير الإسلامية أمر يرجع إلى تحقيق المقاصد الشرعية المعبر عنها بتحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ فما رجحت مصلحته على مفسدته لم يحرم وإلا حرمت المشاركة فيه، بل قد يصل الحكم فيها إلى الوجوب في حالة ما إذا تعين لتحصيل مصلحة المسلمين كأن يكون قضاء حوائجهم متوقفًا على ذلك وبغيره لا تقضى الحوائج.

والعمل في الوظائف الحكومية بمثابة عقد يقوم فيه الموظف بعمل مقابل أجر، وهو أمر مقرر شرعًا بضوابطه فأشبه المعاملات والمعاوضات.

وليس ذلك من قبيل عمل المسلم عند غير المسلم أو استئجار الكافر للمسلم -الذي أباحه العلماء-؛ لأنه عملٌ في نظامٍ مؤسَّسِيٍّ تحكمه قوانينُه، ولا يحكمه الأفراد حتى نفترض تسلطهم على المسلم، فهو عملٌ مشتركٌ ينظِّمه قانونُه ويُتَحاكَم فيه إليه، وتتساوى فيه الحقوق والواجبات بين كافَّة أفراده.

وعزَّزت الدار فتواها بقرار مجمع الفقه الإسلامي الذي سبق إيراده، كما ذكرت الفتوى أيضًا نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 23 (11/3) وتاريخ 11/ 10/ 1986م في دورة مؤتمره الثالث بعمان بالأردن على أنه: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير ‏إسلامية، إذا لم يؤدِّ عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين.

وقد دلَّلت الفتوى على جواز المشاركة بأدلة هي:

أ‌-مشاركة يوسف عليه السلام في حكم مصر التي لم تكن وقتئذٍ بلدًا مؤمنًا؛ قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 37-40].

ومع ذلك ساغ له طلب المشاركة في حكم مصر بما حكاه القرآن عنه من قوله: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]، وتحقَّق له ذلك.

قال ابن تيمية رحمه الله في هذه الآيات: [الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حقِّ الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذٍ خير الخيرين وجوبًا تارةً واستحبابًا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنَّة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركَ واجب في الحقيقة]([5]).

ب‌-موقف النجاشي الذي يرشح جواز اشتراك المسلمين في الحكومات غير الإسلامية حيث إن النجاشي كان مسلمًا، وكان يقوم على نظام يحكم بغير شرع الله.

ما يترجح من أن المشاركة المضبوطة بالضوابط السابقة مما تترجح المصلحة فيه على المفسدة.

وأضافت الفتوى: أن العمل في الوظائف المدنية أو الدينية في الدول غير الإسلامية ليس من باب ولاية غير المسلمين أو متابعتهم في عقائدهم كما زعم بعضهم، فإن التولي المنهي عنه في نصوص الشرع هو الولاء على العقيدة لا كلُّ تعاملٍ أو تعاوُنٍ على الخير، بل الأول هو المنهي عنه، والثاني مأمورٌ به وداخلٌ في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه الطويل في قصة صلح الحديبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»([6]).

قال ابن حجر رحمه الله: [في الحديث فضل الاستشارة لاستخراج وجه الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحًا في أصله إذا تعين ذلك طريقا للسلامة في الحال والصلاح في المآل؛ سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم]([7]).

وأضافت الفتوى كذلك: أن تعيين المفتي والأئمة في ظل الدولة غير الإسلامية ليس عمالةً سياسيةً كما يزعم بعضهم، بل هو حقٌّ كَفَل لأبناء الوطن التوظيفَ في بلدهم، وواجبٌ عُلِّق بأعناقهم لحفظ دين المواطنين المسلمين وفاءً بالعقد الاجتماعي المبرم بينهم على العمل لمصلحة الوطن ومنها حفظُ الدين للمسلمين والتكفل بجميع حقوقهم، وحفظُ الدين والوفاءُ بالعهود من أولويات المقاصد الشرعية والقيم الإسلامية التي يجب كفالتها والوفاء بها([8]).

5-فتوى دار الإفتاء المصرية عن التحاكم إلى القوانين الدولية الوضعية:

فقد سئلت دار الإفتاء المصرية: هل يجوز للمسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية كالقانون الدولي؟ فجاء في الجواب: أن التحاكم شرعًا: هو تفويض المتخاصمَيْن الحكم فيما يتنازعان فيه إلى واحدٍ يرتضيانه لفصل خصومتهما ودعواهما.

فتحكيم القانون أو التحاكم إليه يعني: تفويض من يحكم به في فض الخصومة، والتزام طرفيها بموجبه.

وأشارت الفتوى إلى أن نعت القوانين بـــ”الوضعية” يعني أنها مستمدة بداية من الفكر البشري، فهي من وضع البشر وصناعتهم، وقد يصرف واضعها النظر عن ملاءمتها لفطرة الإنسان النقية أو موافقتها للأديان السماوية؛ ولهذا فتلك القوانين لا تكون مطلقةً ولا صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ولا لكلِّ شخصٍ، وإنما جوهرها النسبيةُ والتغير وفقًا لتطور المجتمعات والمؤسسات.

وعلى ذلك فليس من شرط القوانين الوضعية أن تكون متعارضةً مع الشريعة أو متوافقة معها، بل قد توافقها أو تخالفها كليَّا أو جزئيًا بناءً على توافق المجتمع مع نخبته المُخَوَّل إليها وضع القوانين وصياغة موادها وبنودها.

وقالت الفتوى: إن عملية إنشاء القوانين واعتمادها من الجهات المختصة في الدولة تكيَّف فقهيًا على أنها عملية إنشاء عقود بين أطراف اعتبارية هم الحكَّام والمحكومين أو السلطة المنتخبة والشعب؛ فالشعب ينتخب سلطته لتكون وكيلًا عنه في ضبط علاقات المجتمع من خلال تشريع القوانين وتنفيذها، والأصل في العقود الإباحة ما لم تتعارض مع الشريعة في إباحة حرامٍ أو تحريم مباحٍ، وبهذا التوسع في دائرة العقود قال بعض العلماء؛ كأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.

ويدل على أن الأصل هو الصحة والجواز في كل ما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية بما في ذلك العقود والاتفاقيات والقوانين المنظمة للمجتمع ما رواه الترمذي وابن ماجه في السنن عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن، والجبن، والفراء؟ قال: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»([9]).

وبذلك يتبين جواز التحاكم إلى ما كان من القوانين الوضعية غير متصادم مع الشريعة الإسلامية باعتبار تلك القوانين عقودًا أو اتفاقيات مستحدثة لرعاية المصالح الاجتماعية، وبناءً على ما اختاره بعض أهل العلم من أن الأصل في العقود الصحة والجواز إلا ما دلَّ الشرع على بطلانه وتحريمه.

وأضافت الفتوى: أنه فيما يخص التحاكم إلى القوانين الدولية فإنه قد يحدث أحيانا نزاعات بين الدول على نحو أراض أو مياه أو بترول أو ما أشبه ذلك، فيلجئون إلى التحاكم الدولي الذي تكون له قوانينه غير المستمدة من الشريعة الإسلامية.

والأحكام التي نظمت علاقة المسلمين بغيرهم سلمًا وحربًا قد أطلق عليها الفقهاء القدامى اسم “السير”، وسماها المحدثون باسم “القانون الدولي”.

والحكم في المسألة أنه إن كان القانون الدولي في هذه المسألة لا يخالف الشريعة خاصة فيما يتعلق بالأعراض، بل هي مسائل مالية كالتي مثَّلنا بها، أنه لا بأس بذلك في هذه الحالة؛ لأن المسلمين لا يعيشون بمعزلٍ عن العالم، ولا بد لهم من التعامل مع غيرهم مما يؤدي إلى توافق ومخالفة كما هي العادة بين البشر، فإن كان كل فريقٍ لا ينزل على رغبة الفريق الآخر، أو لا يوافق على قوانينه أو وجهة نظره في القضية فلا بد من التحاكم إلى من يفض هذا النزاع، ولا يشترط في هذه المعاهدات أن تكون نابعة أصالة من قانون الشريعة، بل تكون وفق ما يراه ولي الأمر من مصلحة المسلمين.

وذكرت الفتوى الأدلة على ذلك، فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95].

ووجه الدلالة: أن الله تعالى جعل جزاء الصيد يرجع إلى حكم اجتهادي في مسألة صيد الحرم، وقد احتج بهذه الآية على التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما حين ناظر الخوارج -كما سيأتي-.

كذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35].

قال الإمام القرطبي: [وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم وليس كما تقول الخوارج: إنه ليس التحكيم لأحدٍ سوى الله تعالى، وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل]([10]).

ومن الأدلة على ذلك من السنة النبوية:

مراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم للأعراف الجارية بين الدول في عدم قتل الرسل أو حبسهم؛ فعن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعثتني قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُلْقِيَ في قلبي الإسلامُ، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا. قال: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قال: فذهبت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت([11]).

قال الإمام الطيبي: [المراد بالعهد هاهنا: العادة الجارية المتعارفة بين الناس من أن الرسل لا يتعرض لهم بمكروه]([12]).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد هو ابن معاذ رضي الله عنه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قريبًا منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، فجاء، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ»، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، قال: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ»([13]).

ووجه الدلالة واضحٌ من قبوله صلى الله عليه وسلم من التحكيم نزولًا على قول اليهود.

وأضافت الفتوى: وكان العرب في الجاهلية يتحاكمون فيما بينهم؛ وكان لهم حكَّامٌ معروفون بذلك، وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وربيعة بن مخاشن وضمرة بن ضمرة لتميم، وعامر بن الظرب وغيلان بن سلمة لقيس، وعبد المطلب وأبو طالب والعاصي بن وائل والعلاء بن حارثة لقريش، وربيعة بن حذار لأسد، ويعمر الشداخ وصفوان بن أمية وسلمى بن نوفل لكنانة.

وقد رضي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالتحكيم مع أهل الشام، واحتج حبرُ الأمة على الخوارج بما ذكرنا من آيات الكتاب الحكيم([14]).

وانتهت الفتوى -بناءً على ما تقدم- إلى جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية؛ سواء كانت دولية أو محليَّة، شريطة ألا تتعارض مع الشريعة الإسلامية وثوابتها ومقاصدها([15]).

6-فتوى دار الإفتاء المصرية عن الاقتراض من البنك في بلاد غير المسلمين:

وفيما يخص المعاملات المالية بين المسلم وغير المسلم في بلاد غير المسلمين صدرت فتوى دار الإفتاء المصرية بخصوص الاقتراض من البنك في بلاد غير المسلمين، فقد سئلت الدار: ما حكم الشرع في الاقتراض بالفائدة من البنوك في بلاد غير المسلمين، حيث إن الحاجة إلى ذلك ملحة؟

فقد جاء في جواب الدار: أن العقود الفاسدة كبيع الخمر والربا مع غير المسلمين في بلاد غير المسلمين من المسائل القديمة التي تكلم عنها العلماء، ومن خلال ما اختاره السادة الحنفية فقد ذهب الإمامان أبو حنيفة ومحمد -خلافًا لأبي يوسف- إلى أنه لا ربا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين، وأن المسـلم في تلك الدار له أخذ أموالهم بأي وجه كان؛ ولو بالعقد الفاسد؛ كالقمار أو بيع الميتة والخمر أو الربا وغير ذلك ما دام برضا أنفسهم؛ قال محمد: «وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ عنهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان»([16]).

وقد أوضحت الفتوى أن الإمام محمدًا وغيره سمى دار غير المسلمين بدار الحرب للتقسيم الذي كان شائعًا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين؛ فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، والتقسيم الحديث بين علماء الإسلام -بعدما انتهت حالة الحرب التي شنت على المسلمين- هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحـكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة والحمد لله رب العالمين، فلْيُتَنَبَّهْ إلى ذلك؛ لأننا ننقل هنا من الكتب القديمة لبيان مذهب الأحناف فنحافظ على ألفاظهم.

ومما ينبغي أن يُتَنَبَّه إليه أيضًا في هذا المقام أن مراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار الكفر مطلقًا؛ سواء أكانت الحرب قائمة أم لا؛ بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفرٍ لا حربَ فيها وهي مكة قبل الهجرة، ولم تكن هناك في العالم دار حرب، وصورة الدليل قطعية الدخول في الحكم إجماعًا، ثم قال محمد رحمه الله: «ولو أن المستأمن فيهم -أي الحربيين- باعهم درهمًا بدرهمين إلى سنة، ثم خرج إلى دارنا ثم رجع إليهم، أو خرج من عامه ثم رجع إليهم، فأخذ الدراهم بعد حلول الأجل لم يكن به بأس»([17]).

وقال العلامة السرخسي بعد ذكره لمرسل مكحول «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ»: [وهو –أي: مرسل مكحول- دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب…، وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله]([18]).

وذكرت الفتوى أن قول الإمامين أبي حنيفة ومحمد هو المعتمد والمختار عند السادة الحنفية، وأن حاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في ديار غير المسلمين بين المسلم وأهل تلك الديار؛ سواء أكان العقد بيعًا لميتة أم خنزير أم خمر أم مقامرة.

وانتهت الفتوى إلى أنه بناءً على مذهب الحنفية يكون الاقتراض بالفائدة من البنوك في بلاد غير المسلمين جائزًا لا حرمة فيه؛ لأن هذه الديار ليست محلًّا لإقامة الإسلام فيها، ولأن القروض إنما هي برضا أنفسهم، ولأن ذلك فيه مصلحة للمسلمين؛ لاندماجهم في مجتمعاتهم وعدم الانعزال عنها مما يحفظ عليهم كيانهم ومصالحهم، ويمكنهم من الدعوة إلى صحيح الدين من غير صدام ولا نزاع مفتعل([19]).

7-فتوى دار الإفتاء المصرية بشأن الهجرة غير الشرعية:

في إطار العلاقات الدولية وما يتصل بها من قوانين وتشريعات منظمة يقرها أولياء الأمر صدرت بعض الفتاوى في هذا الصدد منها فتوى دار الإفتاء المصرية بشأن الهجرة غير الشرعية.

وقد ذكرت الفتوى في طليعتها أن الهجرة تكون غير شرعية: إذا حدثت بشكل لا يسمح به البلد المهاجَر منه أو إليه أو هما معًا بها حسب القوانين الموضوعة للدخول والخروج، فهي صادقة على دخول شخصٍ ما حدود دولة ما دون وثائق قانونية تفيد موافقة هذه الدولة على ذلك، ويتم ذلك عن طريق التسلل خفية عبر الطرق البرية أو البحرية أو باستخدام وثائق مزورة، وكذلك تَصدُق على الدخول بوثائق مؤقتة بمدة، ثم المكث بعد هذه المدة دون موافقة قانونية مماثلة.

ومنه يُعلَم أن الشرعية هنا ليست نسبة للشرع الشريف، إنما هي على معنى موافقة القوانين واللوائح المنَظِّمة لهذا الشأن.

وأضافت الفتوى: أن الهجرة غير الشرعية بهذا المعنى تُعد ظاهرة عالمية ومشكلة رئيسة تعاني منها كثير من الدول؛ لما يترتب عليها من أضرار ترتبط بالخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمكانية لهذه الدول.

وقد ذكرت الفتوى أن الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحدث في بلادنا هذه الأيام تتضمن وتستلزم جملة من المخالفات والمفاسد، منها ما يلي:

أولًا: ما في ذلك من مخالفة ولي الأمر، وهذه المخالفة غير جائزة؛ ما دام أن ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم؛ فقد أوجب الله تعالى طاعة أولي الأمر؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّمعُ والطَّاعةُ على الـمَرءِ الـمُسلِمِ فيما أَحَبَّ وكَرِهَ، ما لم يُؤمَر بمَعصِيةٍ، فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ»([20])، والأدلة على هذا كثيرة.

وسبب ذلك كله أن طاعة أولي الأمر سببٌ لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلا بُدّ للناس مِن مَرجِعٍ يأتمرون بأمره؛ رفعًا للنزاع والشقاق، وإلا عَمَّت الفوضى واختل النظام العام، ودخل على الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم.

فللحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه محققًا لمصالح العباد؛ فإنَّ تَصَرُّف الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة، والواجب له على الرعية الطاعةُ والنُّصرة. ومَن أراد أن يهاجر من بلد إلى آخر فعليه الالتزام بالقوانين المتفق عليها بين الدول في هذا الشأن والتي أمر الحاكم بالالتزام بها ونهى عن مخالفتها، ومن ثم تجب طاعته على الفور ولا تجوز الهجرة خارج هذا الإطار الـمُنظِّم لها.

وقد نَصَّ القانون رقم 97 لسنة 1959م المعدَّل بالقانون رقم 78 لسنة 1968م في شأن جوازات السفر على أنه لا يجوز لمصري مغادرة البلاد أو العودة إليها إلا إذا كان حاملًا لجواز سفر، ومن الأماكن المخصصة لذلك، وبتأشيرة على جواز سفره، ويُعاقب مَن يخالف أحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين جنيهًا.

ثانيًا: ما يكون في بعض صورها من تعريض النفس للمخاطر والهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، حيث يُخاطِر المهاجرون بركوب البحر بمراكب غير مُرَخَّص لها بالإبحار في أعالي البحار لعدم صلاحيتها لذلك، وبالرغم من عدم صلاحيتها فإنها تُحَمَّل أكثر من سعتها، وتسلك دروبًا بحرية خطرة -يتجنبها الملاحون في الظروف العادية-؛ اتقاءً لمراقبة خفر السواحل، وهم بهذا يقامرون بأرواحهم بعلمهم بخطورة هذه الوسيلة وكونها مظنة للتلف والغرق، ثم إصرارهم بعد ذلك على ركوبها، مما يجعلهم مقصرين في الحفاظ على أنفسهم مُورِدين إياها موارد الهلاك.

وحفظ النفس أحد مقاصد الشرع الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات، وقد جاءت نصوص الشريعة في النهي عن تعريض النفس للهلاك؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وكذلك قوله تعالى أيضًا: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29].

ثالثًا: ما يترتب على هذا النوع من الهجرة من إذلال المسلم نفسه؛ فإن الدخول إلى البلاد المهاجَر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبَرة يجعل المهاجِرَ تحت طائلة التَّتَبُّع المستمر له من قِبَل سلطات تلك البلد، فيكون مُعرَّضًا للاعتقال والعقاب، فضلًا عمَّا يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين من ارتكاب ما يُسِيء إليهم وإلى بلادهم، بل وأحيانًا دينهم، ويعطي صورة سلبية عنهم؛ كالتسول وافتراش الطرقات.

وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المُسلمَ أن يُذِلَّ نفسه؛ فقد روى الترمذي -وحسَّنه- عن حذيفة بن اليَمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنبَغِي للمُؤْمِن أَن يُذِلَّ نَفْسَهُ» قالوا: وكيف يُذِلُّ نَفسَه؟ قال: «يَتَعَرَّض مِن البلاء لما لا يُطِيق»([21]).

وروى الطبراني في “الأوسط” من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أَعطى الذل مِن نَفسِه طائعًا غير مُكرَه فليَسَ مِنَّا»([22]).

رابعًا: ما في هذه الهجرة من خرق للمعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر، وقد روى الترمذي في “سننه” -وقال: “حسن صحيح”- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُروطِهم، إِلَّا شَرطًا حَرَّم حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرامًا»([23]).

خامسًا: ما يكون في بعض صورها من تزوير وغش وتدليس على سلطات الدولتين المُهَاجَر منها والمُهَاجَر إليها، وهو من باب الكذب، والكذب هو: الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه، والأصل فيه التحريم؛ وقد قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وفي هذه الآية أمر صريح مؤكد باجتناب الزور؛ والكذب زور؛ فالزور من الزور وهو الانحراف، والكذب منحرف مصروف عن الواقع([24]).

وروى الإمام مسلم في “صحيحه” عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا»([25])، وفي رواية: «مَن غَشَّ فليس مِنِّي»([26]).

سادسًا: ما تستلزمه هذه الهجرة من تعاون على المعصية غالبًا؛ حيث قد يلجأ المهاجر إلى من يُزَوِّر له أوراقَه، أو يلجأ إلى من يعينه على الوصول والدخول إلى وجهته بسلوك دروب الهلاك، كل هذا نظير أجرة محددة، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

ويدخل في التعاون على هذه المعصية سماسرة الهجرة غير الشرعية الذين يزينون لهم السفر، ويدفعونهم نحو الوقوع في الهلكة.

وقد انتهت الفتوى إلى أن الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحصل في بلادنا الآن لا يجوز فعله أو الإقدام عليه شرعًا([27]).

8-فتوى دار الإفتاء المصرية بشأن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل:

من الفتاوى التي صدرت بشأن المعاهدات الدولية فتوى دار الإفتاء المصرية الخاصة باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، والتي وُقِّعت في 26 مارس عام 1979م، والتي تصدَّر للإفتاء فيها الشيخ جاد الحق على جاد الحق رحمه الله.

وقد استُهلت الفتوى ببيان أن الإسلام دين الأمن والسلام والإخاء وليس دين حرب أو شحناء أو بغضاء، لم يستخدم السيف للتحكم والتسلط إنما كانت حروبه وسيلة لتأمين دعوته، وقد أمر القرآن الكريم المؤمنين بالامتناع عن القتال إذا لم تكن هناك ضرورة، قال سبحانه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].

وذكرت الفتوى أن الإسلام لم يجز الحرب إلا لعلاج حالة طارئة ضرورية، وقرر أنها إذا وقعت وجنح أحد الطرفين المتحاربين إلى السلم وجب حقن الدماء؛ مصداقًا لقوله تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 61، 62]، فالله تعالى يجيز لنا أن نتعاهد ونقيم المعاهدات مع غير المسلمين إبقاءً على السلم أصلًا أو رجوعًا إليه بوقف الحرب وقفًا مؤقتًا بمدة أو وقفًا دائمًا، كما يجيز أن تتضمن المعاهدة مع غير المسلمين تحالفًا حربيًّا وتعاونًا على رد عدو مشترك.

قال القرطبي: «إن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وهادن قريشًا عشرة أعوام حتى نقضوا عهده، ومازالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة وبالوجوه التي شرحناها عاملة».

ثم نقل قول الإمام مالك رضى الله عنه فقال: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة([28]).

وفي التعقيب على تفسير الآيتين 89، 90 من سورة النساء حيث انتهت الأخيرة بقوله تعالى {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}. قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل السلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين»([29]).

وتابعت الفتوى: إذا تتبعنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، نجد أنهم قد تعاهدوا مع غير المسلمين ولم ينقضوا عهدًا عقدوه إلا أن يُنقَض من الغير، ولعل فاتحة عهود الرسول ومعاهداته كان العهد مع يهود المدينة وتحالفه معهم ثم تعامله وصحبه اقتصاديًّا، ولقد ظل وفيًّا بهذا الوعد والعهد حتى نقضه اليهود فانتقض، وصلح الحديبية وشروطه مشهور، واعتراض الصحابة عليه، كل ذلك فعله رسول الله، ولنا فيه القدوة ولأنه فعل ما فيه المصلحة للمسلمين، ولقد عاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة وصالحهم، وصالح عمر بن الخطاب أهل إيلياء، وكان يستدعي الزعماء غير المسلمين ويشاورهم ويستأنس بآرائهم كما فعل عندما أراد تنظيم الطرق بعد فتحها، وكما استشار المقوقس عظيم القبط في مصر بعد الفتح.

وذكرت الفتوى: أن الفقهاء المسلمين عقدوا على اختلاف مذاهبهم الفقهية أبوابًا في كتبهم أبانوا فيها أحكام المهادنة والمصالحة مع غير المسلمين، واتفقت كلمتهم على أن لرئيس الدولة المسلمة أن يهادن ويصالح محاربيه من غير المسلمين يوقف الحرب معهم مادام في هذا مصلحة للسلمين، واستندوا إلى قول الله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وإلى صلح الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، وأضاف الفقهاء قولهم: ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرًا للمسلمين؛ لأن المقصود هو دفع الشر الحاصل بالحرب([30]).

ثم عرضت الفتوى الأسس الشرعية لقيام المعاهدات مع غير المسلمين شرعًا، وهي كما يأتي:

الأول: ما دلَّ عليه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل». وهذا مفاده أنه يتعين على ولي أمر المسلمين الذي يتعاهد مع غير المسلمين ألا يقبل شرطًا يتعارض صراحة أو دلالة مع نصوص القرآن الكريم، محافظة على سمة الشريعة العامة واحتفاظًا بعزة الإسلام والمسلمين؛ قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ومثال الشروط الباطلة أن تتضمن المعاهدة التحالف مع غير المسلمين ضد المسلمين، أو التعهد بمقتضاها بالقعود عن نجدة المسلمين عند الاعتداء على ديارهم وأموالهم.

الثاني: تحديد الشروط في المعاهدات بينة واضحة على مثال المصالحات التي عقدها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كانت محددة في الحقوق والالتزامات المتبادلة بين المتعاقدين؛ وذلك حتى لا تكون وسيلة للغش والخداع واستلاب الحقوق.

الثالث: أن تُعقد المعاهدة في نطاق التكافؤ بين طرفيها، فلا يجوز لولي أمر المسلمين أن يعاهد ويصالح تحت التهديد؛ لأن مبدأ الإسلام التراضي في كل العقود.

وأضافت الفتوى: أن مسالمة المسلمين لمخالفيهم في الدين أمر يقره الإسلام، فمن المبادئ العامة التي قررتها الشريعة في معاملة أهل الكتاب تركهم وما يدينون، والمنع من التعرض لهم متى سالموا، بل والتسوية بينهم وبين المسلمين في الحقوق الواجبات العامة، وأجازت مواساتهم وإعانة المنكوبين وأباحت الاختلاط بهم ومصاهرتهم، وما أباحت قتالهم إلا ردًّا لعدوان؛ قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وقال سبحانه {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5].

وكان من أوامر الإسلام الوفاء بهذه المعاهدات إذا انعقدت بشروطها داخلة في نطاقه غير خارجة على أحكامه وحافظ عليها الطرف الآخر ولم تنفذ ظروف انعقادها، وهذا هو القرآن الكريم يقول: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، ويقول في شأن توقع الخيانة من المعاهدة دعوة إلى اليقظة والحذر: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِين} [الأنفال: 58]، ذلك حكم الإسلام في التعاهد والمصالحة، بل والمحالفة مع غير المسلمين يقر المعاهدات التي تضمن السلام المستقر وتحفظ الحقوق، وهو فى ذات الوقت ينهى عن خيانة العهد ويأمر بالوفاء بالوعد، فالعلاقة بين الناس في دستور الإسلام علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب للدفاع عن النفس أو للوقاية منها، ومع هذا يأمر الإسلام بأن يكتفى من الحرب بالقدر الذى يكفل دفع الأذى، ويأمر كذلك بتأخيرها ما بقيت وسيلة إلى الصبر والمسالمة.

وتابعت الفتوى: وجَّه القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنمط الدعوة المطلوب فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وفى نطاق هذا الاتجاه والتوجيه عقد الرسول حين قدم المدينة مهاجرًا معاهدة بين المسلمين واليهود وباقي الأقليات التي كانت تساكنه في المدينة وما حولها، رسم بها سبيل دولة الإسلام في التعاون المشترك مع مواطنيها، وجيرتها من أهل الأديان الأخرى، وهذه المعاهدة التي قد نسميها بأسلوبنا المعاصر «معاهدة دفاع مشترك» يرشدنا فقهها إلى أن نسلك هذا السبيل ونقتدي بها ما دام في مثلها مصلحة للمسلمين.

ولقد كان من آثار هذه المعاهدة التعاون المالي والاقتصادي بين جميع القاطنين في المدينة وما حولها دون نظر إلى الاختلاف في العقيدة والدين.

وأضافت الفتوى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد المسئولية ووضعها على عاتق أولياء الأمور كل في موقعه فيقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته»([31])، ويقول: «ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئًا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة»([32]).

ومن هذا يتبين لنا مدى مسئولية رئيس الدولة في الإسلام، وأن عليه أن يحفظ الرعية مما يحفظ به نفسه، لأنه قد التزم العمل لمصلحتها في نطاق هذه المسئولية.

ثم جاء في الفتوى: إذا عرضنا اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل على قواعد الإسلام التي أصَّلها القرآن وفصَّلتها السنة، وبيَّنها فقهاء المذاهب جميعًا نجد أنها قد انضوت تحت لواء أحكام الإسلام، فهي قد استخلصت قسمًا كبيرًا من الأرض التي احتلتها إسرائيل في هزيمة سنة 1967م بما فيها وعليها من مواطنين عادت إليهم حريتهم وثروات نستفيد بها بدلًا من أن يستنزفها الخصوم، وفي هذا مصلحة محققة للمسلمين.

وجاء في الفتوى أيضًا: حين نعرض هذه الاتفاقية في ضوء مسئوليات الحاكم المسلم نجد أن رئيس مصر قد نصح للأمة وقام بالمسئولية، فحافظ على الرعية حفاظه على نفسه، حارب حين وجد ألا مندوحة من الحرب بعد أن استعد وأعد، وفاوض وسالم حين ظهر ألا مفر من السلم، وأنه يستطيع الوصول إلى الحق والحصول عليه سلمًا لا حربًا، والإسلام يقرر أن الحرب ليست حرفة ولا غاية وإنما هي ضرورة دفاع أو وقاية، وكما قال الرسول الأكرم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»([33])، أي أن الله سبحانه يحب لين الجانب في الفعل والقول، كما يحب الأخذ بالأيسر الأسهل في أمور الدين والدنيا ومعاشرة الناس، فإذا استعصت الحرب كوسيلة لاسترداد الحق وتيسر السلم أفلا يكون هو الأول والأولى.

وجاء في ختام الفتوى: إن صلح الحديبية كان خيرًا وبركة على الإسلام والمسلمين، فتح الله به قلوبًا غلفًا آمنت بالله وبرسوله، وانضوت تحت لواء القرآن على بصيرة من الله، وفى طريق عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية أنزل الله عليه أكرم بشرى (سورة الفتح)، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، فانظروا أيها العرب والمسلمون كيف كان هذا الصلح فتحًا ونصرًا لدين الله ولرسوله، وكيف مهَّد الأرض لانتشار الإسلام، مع أن أصحاب الرسول كانوا له من الرافضين وعن تنفيذه من القاعدين، حتى علموا خيره فانصاعوا لأمر الله ورسوله.

ونحن وفى صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل، ونأمل أن يكون فتحًا نسترد به الأرض، ونسترد به العرض، وتعود به القدس مقدسة عزيزة إلى رحاب الإسلام وفي ظل السلام([34]).

 

 

([1]) انظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية، فتوى بحثية رقم (2870)، بتاريخ 03-02-2014م.

([2]) تفسير البيضاوي (2/92)، دار إحياء التراث العربي-بيروت.

([3]) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (5/178-180)، الدار التونسية للنشر.

([4]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى بحثية، رقم (2421)، بتاريخ 03 سبتمبر 2015م.

([5]) مجموع الفتاوى (20/56-57)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية.

([6]) أخرجه البخاري، رقم (2731).

([7]) فتح الباري (5/352).

([8]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (3250)، بتاريخ 04 مارس 2015م.

([9]) أخرجه الترمذي، رقم (1726)، وابن ماجه، رقم (3367).

([10]) الجامع لأحكام القرآن (5/179)، دار الكتب المصرية.

([11]) أخرجه أبو داود، رقم (2758).

([12]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/2564)، دار الفكر.

([13]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (3043)، ومسلم، رقم (1768).

([14]) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (8/311)، حديث رقم (16741).

([15]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (4195)، بتاريخ: 03 يناير 2017م.

([16]) شرح السير الكبير للسرخسي (ص1410)، الشركة الشرقية للإعلانات.

([17]) السابق (ص1486).

([18]) المبسوط للسرخسي (14/56)، دار المعرفة-بيروت.

([19]) انظر: سؤالات الأقليات لدار الإفتاء المصرية (ص270-276)، 1434هـ.

([20]) أخرجه البخاري، رقم (7144)، ومسلم، رقم (1839).

([21]) أخرجه الترمذي، رقم (2254).

([22]) أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (471).

([23]) أخرجه الترمذي، رقم (1352).

([24]) انظر: تفسير البيضاوي (4/71)، دار إحياء التراث العربي.

([25]) أخرجه مسلم، رقم (101).

([26]) أخرجه مسلم، رقم (102).

([27]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (3921)، بتاريخ 22 يناير 2017م.

([28]) الجامع لأحكام القرآن (8/40، 41).

([29]) السابق (5/309).

([30]) انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم (5/85)، دار الكتاب الإسلامي، المغني لابن قدامة (9/296، 297)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/205، 206)، تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي (9/304، 305)، دار إحياء التراث العربي-بيروت.

([31]) أخرجه البخاري، رقم (893)، ومسلم، رقم (1829).

([32]) أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (7594)، والصغير، رقم (919).

([33]) أخرجه البخاري، رقم (6024)، ومسلم، رقم (2165).

([34]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (10/3621-3636)، القاهرة-1400هـ-1980م.

اترك تعليقاً