البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول آداب المفتي

تمهيد في القواعد العامة الضابطة لآداب المفتي

82 views

القواعد لغة: جمع قاعدة، والقاعدة: أَصلُ الأُسِّ، والقواعد: الأساس، وقواعد البيت: أساسه، ومنه قوله تعالى: {وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ} [البقرة: 127]، فقواعد كل شيء: أسسه وأصوله التي ينبني عليها([1]).

واصطلاحًا: هي “الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته”([2]).

والآداب في اللغة: جمع أدب، والأَدَبُ: الظَّرْفُ وحسن التناول، يقال: أَدُبَ أَدَبًا، فهو أَدِيبٌ، من قَوْمٍ أُدَبَاءَ. وأَدَّبَهُ فتأدب: عَلَّمَه([3]).

وجاء في تاج العروس: الأدب: هو الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي به لأنه يأدِب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، وأصل الأدب: الدعاء، والأدب ملكة تعصم من قامت به عما يشينه([4]).

والأدب في الاصطلاح يُعرِّفه الجرجاني بأنه: “عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ”([5]).

وعرفه السيوطي بأنه: “استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا”([6]).

وقيل هو: “تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق”([7]).

وعلى ذلك فالمقصود بـ(القواعد العامة الضابطة لآداب المفتي)؛ أي: “الضوابط الكلية التي تعد من المحاسن التي ينبغي له أن يتَحلَّى ويتلزم بها في العملية الإفتائية”.

ومِن أهم هذه الضوابط ما يلي:

أولًا: مدى اشتراط الذكورة:

الذكورة في اللغة والاصطلاح: خلاف الأنوثة، والتذكير خلاف التأنيث، وجمع الذَّكَر: ذُكُورٌ وذُكُورَةٌ وذِكَارٌ وذِكَارَةٌ وذُكْرانٌ وذِكَرَةٌ، وفي القرآن الكريم: {وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ} [آل عمران: 36] {أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ} [الشورى: 50]([8]).

وقد نَصَّ الفقهاء على أنه لا يشترط في المفتي الذكورة، وهو -أي: الذكورة- من الشروط السلبية للمفتي، أي: التي لا يجب توفرها واشتراطها، فلا يشترط أن يكون ذَكَرًا، ولا ناطقًا، ولا مُبْصِرًا؛ فتصح الفتيا من المرأة كما تصح من الرجل ما دامت عالمة بالفتوى أهلًا لها، وتوفرت فيها الشروط التي اشترطها أهل العلم لتولي منصب الإفتاء.

قال ابن الصلاح: “لا يشترط في المفتي الحرية، والذكورة، كما في الراوي”([9]).

وقال البهوتي: “(وتصح فتوى العبد والمرأة…) كخبرهم”([10]).

فما اشترطه الفقهاء في المفتي هو أن يكون مسلمًا بالغًا، عاقلًا، عَدْلًا، ثقة، مأمونًا، عالمًا بالكتاب والسنة والإجماع والقياس-على النحو الذي اشترطه الفقهاء في شروط المفتي وآدابه-، ويستوي في ذلك الذَّكَر والأنثى؛ يقول النووي: “شرط المفتي: كونه مكلفًا، مسلمًا، ثقة، مأمونًا، متنزهًا عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظًا، سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته”([11]).

والأصل أنَّ المرأة مِثْل الرجل في سائر التكاليف الشرعية؛ لأنَّ كل خطاب ورد في النص الشرعي من القرآن الكريم والسنة النبوية جاء على العموم شاملًا الذكر والأنثى؛ فقد ساوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات إلا ما تقتضيه الطبيعة الخاصة لكلٍّ منهما؛ فرفعت من شأنها وأعلت من قدرها، ومنحتها الحق في مباشرة جميع الحقوق المدنية ما دامت تتناسب مع طبيعتها التي خلقها الله عليها.

ومن ناحية أخرى فإنَّ الثابت من تاريخ الأمة الإسلامية أنَّ مِن النساء مَن اشتغلن بالفتيا والعلم والمشاورة؛ ففي عصر الصحابة كان أمهات المؤمنين مفتيات؛ أمثال: السيدة عائشة وأم سلمة وغيرهما من نسائه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن جميعًا، ومن الصحابيات والتابعيات، ومَن بعدهن في سائر العصور.

وقد تَرجَم الإمام الذهبي وغيره لبعض مَن اشتغلن منهن بالفتوى، فذَكر: “بنت المحاملي: العالمة الفقيهة المفتية، أَمَةُ الواحد بنت الحسين بن إسماعيل. تفقهت بأبيها، وروت عنه، وعن إسماعيل الوراق، وعبد الغافر الحمصي، وحفظت القرآن، والفقه للشافعي، وأتقنت الفرائض، ومسائل الدور والعربية وغير ذلك. واسمها ستيتة. قال البرقاني: كانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة”([12]). وأيضا: “أم عيسى بنت إبراهيم بن إسحاق الحربي، ذُكِرَ لي أنَّها كانت فاضلة عالِمة تفتي في الفقه”([13]).

هذا؛ ولما كان يغلب على كثير من النساء الحياء، وخاصة في أمور الطهارة، ويتحرَّجن عند توجيه أسئلتهن الدينية في هذه الأمور الخاصة إلى المفتين من الرجال -قد يصل بها الأمر إلى عدم السؤال حياءً-، فمِن هنا تتأتى أهمية المرأة المفتية في المجتمع؛ فللمرأة خصائص قد لا يحسنها المُفتُون من الرجال، فالأجدر أن يفتيهن النساء، كما كانت أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن يفعلن ذلك؛ حيث كنَّ يُبلِّغْنَ النساء ما تعلَّمْنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شؤونهن الخاصة.

بعد هذا العرض نعود فنقول: إنَّه يجوز للمرأة المُؤهَّلة أن تتولى الإفتاء باتفاق جمهور الفقهاء، وذلك خلافًا لتوليها القضاء؛ حيث اشترط الجمهور في القاضي كونه ذكرًا؛ لقوله تعالى: {ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ} [النساء: 34]([14]).

بينما ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى جواز تولي المرأة القضاء في غير الحدود؛ لأنه تصح شهادة المرأة في غير الحدود، والقضاء مبني على الشهادة وشروطه شروطها([15]).

بل حُكِي عن ابن جرير الطبري أنه لا يشترط الذكورة في ولاية القضاء؛ لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية([16]).

أَمَّا عن تعيين المرأة في منصب الإفتاء سواء على الوجه العام بأن تكون على رأس عمود الإفتاء أو ما يسمى: بمنصب المفتي العام، أو الخاص بأن تكون مساعدة للمفتي العام، سواء في أمور النساء خاصة أو الرجال والنساء عامة‏‏، فهذا يرجع إلى اختلاف الزمان والمكان والأشخاص‏‏، وهي مسألة إجرائية وليست فقهية‏، وهي ترجع إلى ولي الأمر حسب توفُّر العالمات الصالحات المؤهلات لهذا المنصب‏ وتقبُّل المجتمع لذلك الأمر وفائدته.

والملاحظ في الآونة الأخيرة في دُور ومؤسسات الفتوى الاعتماد على العنصر النسائي والاستفادة بهن في المجال الإفتائي، أما عن تولي المرأة منصب الإفتاء العام فهو أمر لم يقع منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا في سائر الأقطار والبلدان، والأمر راجع كما أشرنا إلى ولي الأمر.

 

 

 

ثانيا: فتوى الأخرس والأعمى:

الأخرس: هو الذي مُنِع من الكلام خِلْقَة أو عِيًّا([17]). جاء في معجم متن اللغة: “الخَرَسُ: ذهاب الكلام وانعقاد اللسان عيا أو خلقة”([18]).

والأعمى: هو مَن ذَهَب بصره كله، فلا يرى شيئا؛ جاء في لسان العرب: “العمى: ذهاب البصر كله”، وفي الأزهري: “ذهاب البصر من العينين كلتيهما”([19]).

والنطق والبصر من الشروط السلبية للمفتي -كما أشرنا سابقًا- والتي لا يشترط توفرها لديه، فيجوز إفتاء الأخرس والأعمى([20])؛ فقد نَصَّ الفقهاء على أنَّه لا يشترط النطق للمفتي، فتجوز الفتيا مِن الأخرس بشرط كونها مفهمة، وله أن يفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهومة([21]).

قال ابن الصلاح: “ولا بأس بأن يكون المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبًا، والله أعلم”([22]).

وقال المَرْداوي: “وتصح فتوى العبد والمرأة والقريب والأمي والأخرس المفهوم الإشارة أو الكتابة”([23]).

فالإشارة المفهمة من الأخرس، وكذا كتابته، كالنطق، تقوم مقام كلامه، في البيع والنكاح وغيرهما من سائر العقود والأحكام؛ قال العز بن عبد السلام: “وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع الناس”([24]). وقال ابن مفلح: “وإشارة الأخرس المفهومة كلام”([25]).

ونص عليه النووي وغيره صراحة في حق المفتي، فقال: “والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته”([26]).

كما لا يشترط البصر، فتصح فتيا الأعمى، قال الروياني: “ولا يعتبر في المفتي البصر”([27]).

وقال الدسوقي: “وتجوز تولية الأعمى في الفتوى”([28]).

أما عن الأصم: وهو مَن لا يَسْمَع أصلًا، فقد قال بعض الحنفية: إنَّ السمع شرط في الفتوى، فلا تصح فتيا الأصم، وقال ابن عابدين: لا شك أنه إذا كُتِب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن يُنَصَّب للفتوى؛ لأنه لا يمكن لكل أحد أن يكتب له سؤاله([29]).

من هذا العرض المبسط نقول: إنه تصح فتيا الأخرس المفهوم الإشارة أو الكتابة، والأعمى فاقد البصر، والأصم الذي لا يسمع شيئًا -عند بعض الفقهاء- بأن يُكتَب له السؤال ويجيب إما شفويًّا أو بالكتابة أيضًا.

ومع ما سبق ذكره إلَّا أننا نشير: إلى أَنَّ كمال الخِلْقة وسلامة الأعضاء مِن سمعٍ وبَصرٍ ونُطْق ونحوهم لدى المفتي -على غرار القاضي- هو الأولى والأفضل لمن يُنصَّب للإفتاء مِن قِبَل ولي الأمر؛ بحيث يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا؛ لأنَّ الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميعُ الناس إشارته، والأصمُّ لا يسمع قول المستفتين ولا يستطيع مناقشتهم وتبادل الحديث معهم، والأعمى قد يحتاج إلى النظر أحيانا لرؤية بعض المستفتين لمعرفة مدى حيل بعضهم أو ألاعيبهم، ونحو ذلك.

ويُفْهَم من كلام الفقهاء التفرقة بين منصب الإفتاء وبين المفتي غير المشتغل بالإفتاء -وهو الذي لم يُنَصَّب للفتوى من قبل ولي الأمر- حيث اشترطوا فيمن ينصب للإفتاء أن يكون صحيح السمع.

قال ابن عابدين: “إذا كان منصوبًا للفتوى يأتيه عامة الناس ويسألونه من نساء وأعراب وغيرهم فلا بد أن يكون صحيح السمع؛ لأنه لا يمكن كل سائل أن يكتب له سؤاله، وقد يحضر إليه الخصمان ويتكلم أحدهما بما يكون فيه الحق عليه لا له والمفتي لم يسمع ذلك منه فيفتيه على ما سمع من بعض كلامه فيضيع حق خصمه، وهذا قد شاهدتُه كثيرا فلا ينبغي التردد في أنه لا يصح أن يكون مفتيًا عامًّا ينتظر القاضي جوابه ليحكم به فإنَّ ضرر مثل هذا أعظم من نفعه”([30]).

وعليه يمكن أن نقول: إنه ينبغي أن يكون المفتي الذي يتولى منصب الإفتاء في الدولة صحيح الحواس والأعضاء، وقياسًا على القاضي؛ نظرًا لمشابهة واشتراك مهامِّهِما.

 

 

 

ثالثًا: القرابة والعداوة بين المفتي والمستفتي، وجَرَّ المنفعة، ونحو ذلك:

نَصَّ الفقهاء على أَنَّ القرابة أو العداوة أو نحوهما([31]) لا تُؤثِّر في صحة الفتوى كما تُؤثِّر في صحة القضاء والشهادة؛ وذلك لأنَّ المفتي مُخْبِر عن الحكم في المسألة أو النازلة بأمر عامٍّ لا اختصاص له بشخص المستفتي، فكان في ذلك كالراوي -إذ الفتوى في هذا الشأن بمنزلة الرواية- لا كالشاهد، كما أَنَّ فتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي([32]).

قال البهوتي: “(وتصح) الفتيا (مع أحد الشفع، ودفع الضرر من العدو، وأن يفتي أباه وأمه وشريكه و) سائر (مَن لا تقبل شهادته له) كزوجته ومكاتبته؛ لأن القصد بيان الحكم الشرعي وهو لا يختلف، وليس منه إلزام بخلاف الحاكم”([33]).

وعلى ذلك: فيجوز للمفتي أن يفتي أبويه أو أبناءه، وكذا أي قريب له، أو صديقه، أو شريكه، أو يفتي على عدوه، إلى غير ذلك؛ إلا أنه ينبغي له ألا تؤثر فيه هذه القرابة أو العداوة، أو جر نفع، أو دفع ضرر، إلى نحو ذلك، جراء هذ الاستفتاء؛ فإن حَابَى من يفتيه فأفتى أباه أو ابنه أو صديقه بشيء، وأفتى غيرهم بضده محاباة، فلا يجوز، بل قَدَح هذا في عدالته، إلَّا أن يكون ثَمَّ سببٌ يقتضي هذا التخصيص غير المحاباة، ومثال ذلك: أن يكون في المسألة قولان قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي قريبه أو صديقه بقول الإباحة، ويفتي الأجنبي بقول المنع([34]).

أما إذا نابذ المفتي في فتواه شخصًا معينًا، فقد ذَكَر ابن الصلاح نقلًا عن الماوردي: “أَنَّه صار خصمًا حكمًا مُعانِدًا، فتُرَدُّ فتواه على مَن عاداه كما تُرد شهادته عليه”([35]).

فالمفتي هو المُوقِّع عن الله عز وجل القائم في الأمة مقام رسوله صلى الله عليه وسلم، مخبرًا عن الحكم الشرعي، فلا يجوز له أن يُحابِي في دين الله أحدًا، أو أن يتبع في فتواه غرضه ومشتهاه.

 

 

 

رابعًا: فتوى الفاسق إن كان مُجْتَهِدًا:

الفسق في اللغة: الخروج عن الأمر، ومنه قالت العرب: “فَسقت الرُّطبة”، إذا خرجت عن قشرها، ويقال: فَسَقَ الرجل، يَفْسُقُ فِسْقًا وفُسوقًا، أي: فَجَرَ، وفَسَقَ عن أمر ربه أي: خرج، وقيل: جَارَ ومال عن طاعته. وأصل الفسق: هو الخروج عن الاستقامة والجَوْرُ([36]).

والفسق في الاصطلاح: لا يخرج عن المعنى اللغوي المذكور، فهو -أي: الفسق في الاصطلاح-: الخروج من طاعة الله عز وجل؛ فيشمل الكفر وما دونه من المعاصي صغيرِها وكبيرِها([37]).

فالفاسق عند الفقهاء هو: “الخارج عن أوامر الشريعة الإسلامية، ممن يرتكب الكبائر ويُصرُّ على الصغائر”([38]).

وفي الجملة هو الذي يرتكب بعض الذنوب التي تخرجه عن إطار العدالة.

ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه ينبغي أن يكون المفتي عدًلا موثوقًا به في دينه وعفافه، ومَن لم يتحقق فيه شرط “العدالة” بأن اختل دينه أو فسدت مروءته لم يصلح للفتوى لعدم الوثوق به.

قال النووي: “وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهورا بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة… وشَرطُ المفتي كونه مكلفًا، مسلمًا، ثقة، مأمونًا، متنزهًا عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظًا”([39]).

وقال ابن حزم: “وأما اسم الفقه، فهو واقع على صفة في المرء، وهي فهمه لما عنده، وتنبُّهُه على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث، ووقوفه عليها، وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده، ويزيد القياسيون علينا ههنا زيادة وهي معرفته بالنظائر في الأحكام والمسائل وتمييزه لها، فهذه معاني الأسماء المذكورة في قولهم: فلانٌ حافظ، وفلان عالم، وفلان فقيه”([40]).

وعليه؛ فالفاسق لا يصلح مفتيًا، وإن كان مجتهدًا باتفاق الفقهاء([41])؛ لأنَّ الفتوى من أمور الدين([42])، ولأنه مخبِرٌ عن الحكم الشرعي في السؤال أو النازلة المسؤول عنها، وخبر الفاسق لا يُقبَل؛ “لأنه ليس بأمين على ما يقول”([43])، فلا يوثق في شيء من أقواله وأفعاله.

قال الخطيب البغدادي عن شروط المفتي: “يكون عدلًا ثقةً؛ لأنَّ علماء المسلمين لم يختلفوا في أَنَّ الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين، وإن كان بصيرًا بها”([44]).

وقال ابن حمدان: “أما اشتراط إسلامه، وتكليفه، وعدالته؛ فبالإجماع؛ لأنه يخبِر عن الله -تعالى- بحكمه، فاعتُبِر إسلامه، وتكليفه، وعدالته لتحصل الثقة بقوله، ويبنى عليه، كالرواية والشهادة”([45]).

ويؤخذ من هذا أنَّ الفقهاء يشترطون في المفتي “العدالة” وعدم جواز فتيا الفاسق واستفتائه، ومَن لم يشترطها -العدالة- منهم في المجتهد فقد اشترطها في المفتي.

حيث جاء في التحبير شرح التحرير: “لكن لا يستفتى الفاسق ولا يُعمَل بقوله بخلاف المرأة والرقيق؛ فالعدالة شرط في المفتي لا في المجتهد؛ لأن المفتي أخصُّ فشروطه أغلظ”([46]).

وقال ابن حجر الهيتمي: “… والفاسق -سيما المتجاهر- لا حرمة له ولا توقير ولا مراعاة، بل يُعامَل بالسب والزجر والتغليظ لعله ينزجر ويتوب عن الجراءة على الأحكام الشرعية بالكذب والبهتان ونصب نفسه لمقام الإفتاء الذي ليس هو ولا شيخه الذي ذكره فيه أهلية له بوجه من الوجوه، وليس هذا المقام ينال بِالْهُوَيْنَا([47])، أو يتسور سوره الرفيع من حفظه وتلقف فروعا لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها، وإنما يجوز تسور ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه أحد من العلماء، فإذا تمكن الفقه فيه حتى وصل لهذه المرتبة ساغ له الآن أن يفتي، وأما قبل وصوله لهذه المرتبة فلا يسوغ له إفتاء وإنما وظيفته السكوت عما لا يعنيه، وتسليم القوس إلى باريها إذ هي مائدة لا تقبل التطفل، ولا يصل إلى حومة حماها الرحب الوسيع إلا من أنعم عليه مولاه بغايات التوفيق والتفضل“([48]).

واستثنى بعض الفقهاء من هذا الحكم -عدم جواز فتيا الفاسق– جواز إفتاء الفاسق لنفسه؛ حيث إنَّه يعلم صِدْق نفسه؛ قال ابن الصلاح: “لا تصح فتيا الفاسق، وإن كان مجتهدًا مستقلا، غير أنه لو وقعت له في نفسه واقعة عمل فيها باجتهاد نفسه ولم يستفت غيره”([49]).

وهو ما نص عليه ابن حمدان، بقوله: “ولا تصح من فاسق لغيره وإن كان مجتهدًا، لكن يفتي نفسه ولا يسأله غيره”([50]).

وأَكَّده ابن القيم، حيث قال: “وأما فتيا الفاسق: فإن أفتى غيره لم تقبل فتواه، وليس للمستفتي أن يستفتيه، وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يفتي غيره”([51]).

ويرجع السبب في جواز فتيا الفاسق لنفسه إلى أنه لا يتهم بأمره كما أشار إلى ذلك البهوتي؛ حيث قال: “(لكن يفتي) المجتهد الفاسق (نفسه) لأنه لا يتهم بالنسبة إلى نفسه”([52]).

أما عن مستور العدالة: وهو مَن كان ظاهره العدالة ولم تختبر أو تعرف عدالته الباطنية، ففي جواز فتياه قولان:

الأول: لا تجوز فتواه كالشهادة.

والثاني، وهو أصح القولين: جواز فتواه؛ لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة، ففي اشتراطها في المفتين حرج على المستفتين([53]).

وعلى هذا يتضح لنا بجلاء: مدى أهمية اشتراط العدالة في المفتي وأن يكون ثقةً مأمونًا به، “صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقيا المآثم، بعيدًا من الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا لمروءة مثله في دينه ودنياه”([54])؛ وهذا لِعِظَمِ أمر الفتوى وخطورتها، وتعلُّقِها بمساس الدين، ولكونها إخبارًا عن رب العالمين.

 

خامسًا: خلوُّ البلدة أو القرية ونحوها من المفتين سوى مفتٍ واحد:

من المعلوم أن تبليغ الأحكام الشرعية واجبٌ على ذوي العلم؛ لقوله تعالى: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ} [آل عمران: 187]، وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ} [البقرة: 159]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سُئلَ عن علمٍ ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار))([55]).

ولَمَّا كانت الفتوى هي تبيينَ الحكم الشرعي عن الله تعالى، وتبليغها إلى الناس، كانت الفتوى فرضًا كفائيًّا، فإذا قام بها البعض سقط الحرج عن الجميع، ومتى لم يقع أثِمَ الجميع، فإن لم يكن هناك من يصلح لها إلَّا واحد تعيَّن عليه، وأصبح فرضًا عينيًّا عليه؛ للأدلة السابقة.

ولهذا ذكر العلماء أنَّ مِن فروض الكفايةِ القيامَ بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدِّين، ودَفْع الشُّبَه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما([56]).

وذكر ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، رضي الله عنهم جميعًا، قال: “سِتٌّ إذا أَدَّاها قوم كانت موضوعة عن العامة، وإذا اجتمعت العامة على تركها كانوا آثمين: الجهاد في سبيل الله -يعني سد الثغور، والضرب في العدو-، وغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، والفتيا بين الناس، وحضور الخطبة يوم الجمعة، ليس لهم أن يتركوا الإمام ليس عنده من يخطب عليه، والصلاة في جماعة. قال الحسن: وإذا جاءهم العدو في مصرهم فعليهم أن يقاتِلوا؛ يعني أجمعين. قال ابن المبارك: وبهذا كله أقول”([57]).

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الفتوى يعتريها الأحكامُ التكليفية الخمسة وهي: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، بسبب حال السائل أو موضوع السؤال([58]).

إلَّا أن الحكم الأصلي للفتوى أنها فرض على الكفاية؛ إذ لا بد للمسلمين ممن يبين لهم أحكامَ دينهم فيما يقع لهم، وهو أمرٌ لا يحسنُه كلُّ أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرةُ عليه، المستجمع للشروط المعتبرة.

وإنما كانت الفتوى فرضًا كفائيًّا ولم تكن فرض عينيًّا لأنها تقتضي تحصيل علوم جمة، فلو كُلِّفَها كلُّ واحد لأفضى إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم؛ لانصرافهم إلى تحصيل علومٍ بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة، والأعمال التي تعمر بها الأرض، شأنها في ذلك شأن باقي فروض الكفايات.

وعليه: فالإفتاء في أصله فرض كفايةٍ، لكنه قد يتعيَّن أن يصير فرض عين على أحد المفتين، بحيث يأثم بتركه، ولا يتعين الإفتاء على المسؤول إلا بشروط منها: أن لا يوجد في القرية أو الناحية([59]) غيره ممن يتمكن من الإجابة([60]).

قال النووي: “الإفتاء فرض كفاية؛ فإذا استُفتي وليس في الناحية غيرُه تعيَّن عليه الجواب”([61])، فإن وُجِدَ عالمٌ آخر يمكنه الإفتاء لم يتعين على الأول، بل له أن يحيلَ على الثاني، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: “أدركتُ عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأَل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول”([62]).

وقيل: إذا لم يحضر الاستفتاء غيره تعين عليه الجواب، قال النووي: “فإذا استُفتي وليس في الناحية غيره تعيَّن عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب في حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضره غيره فوجهان: أصحهما لا يتعين… والثاني يتعين، وهما كالوجهين في مثله في الشهادة”([63]).

وختامًا: نرى أن مسألة “خلو البلدة أو القرية ونحوها من المفتين سوى مفتٍ واحد” وإن كانت قليلة الحدوث في ظل التطورات الهائلة لشبكات الاتصالات نحو الهواتف الذكية، والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فهي ممكنة التصوُّر والحدوث، لذا أشرنا إليها ضمن هذا التمهيد.

 

 

 

سادسًا: الرجوع عن الفتوى:

الرجوع هو العدول عن الشيء بعد وقوعه، والرجوع عن الفتوى هو: ردُّها وترْكُ العمل بها متى بانت خطأ ([64]).

وعرَّفها البعض بأنها: “تغيير المفتي رأْيَه في المسألة الواحدة من حكم إلى آخر لخطأ في الاجتهاد أو لتوفُّر موجبات تغير الفتوى”([65]).

فقد يخطئ المفتي وهو بصدد فتواه في حكم تلك النازلة، إما بسبب الغفلة، أو عدم التثبُّت، إلى نحو ذلك من الأسباب.

وإذا ظهر للمفتي -سواء أكان مجتهدًا أم مقلدًا- أنَّ ما أفتى به خطأٌ لا حظَّ له من الصواب وجب عليه الرجوعُ عن فتواه، وإعلامُ المستفتي بذلك، وعلى المستفتي الكفُّ عنها، سواء عمل بها أم لم يعمل([66]).

قال ابن الصلاح -في شأن المفتي المجتهد سواء أكان مجتهدًا مطلقًا أو مستقلًّا أو منتسبًا لمذهب معين-: “إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه، فإن أعلَمَ المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول، لم يجز له العمل به، وإن كان المستفتي قد عمل به قبل رجوعه، فإن كان مخالفًا لدليل قاطع لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل الاجتهاد لم يلزمه نقضه”([67]).

قال القاسمي: “وهذا التفصيل ذكره الصيمري، والخطيب، وأبو عمرو، واتفقوا عليه، ولا أعلم خلافه، ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض”([68]).

فإذا خالف المفتي في فتواه دليلًا قطعيًّا من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي، نُقِضت فتواه؛ وذلك لأنَّه “ينقض من فتوى المفتي ما ينقض من حكم الحاكم”([69]). ومن المعلوم أنَّ حكم القاضي ينقض في أربعة مواضع: “مخالفة النص الصحيح من الكتاب أو السنة، ومخالفة الإجماع، ومخالفة القواعد القطعية، ومخالفة القياس الجلي”([70]).

أما إن كان رجوع المفتي عن قوله الأول من جهة اجتهاد هو أقوى أو قياس هو أولى لم ينقض العمل المتقدم؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد([71])، ولا يجب إعلام المستفتي بذلك، وإنما يعمل المفتي بفتواه فيما يستقبل من اجتهاده.

وقال ابن الصلاح -في شأن المفتي المقلد في فتواه-: “وإذا كان المفتي إنما يُفتي على مذهب إمام معين، فإذا رجع لكونه بان له قطعًا أنه خالف في فتواه نصَّ مذهب إمامه، فإنه يجب نقْضُه، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد؛ لأن نصَّ مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل… وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه فحال المستفتي في عمله به على ما كان، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل، وكذا بعد العمل حيث يجب النقض”([72]).

فعلى المفتي في كلا الحالتين -سواء أكان مجتهدًا أم مقلدًا- إذا تبيَّن له أنه أخطأ في الحكم، وقد جانبه الصواب: أن يخبر المستفتي بالصواب؛ اقتداءً بالصحابة والسلف الصالح، والآثارُ في ذلك كثيرة:

فعن ابن مسعود: “أن رجلًا من بني شمخ من فزارة تزوج امرأة ثم رأى أمها فأعجبته، فاستفتى ابن مسعود عن ذلك، فأمره أن يفارقها ويتزوج أمها، فتزوجها فولدت له أولادًا، ثم أتى ابن مسعود المدينة، فسأل عن ذلك، فأخبر أنها لا تحل له، فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام؛ إنها لا تنبغي لك ففارِقْها”([73]).

قال الخطيب البغدادي مُعلَّقًا على ذلك: “ولعل عبد الله بن مسعود تأوَّل في فتواه قول الله تعالى: {فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ} [النساء: 23] أن الاستثناء راجع إلى أمهات النساء وإلى الربائب جميعا”([74]).

ويقول ابن القيم: “فإنه لَمَّا ناظر الصحابة في تلك المسألة، بيَّنوا له أنَّ صريح الكتاب يحرمها لكون الله تعالى أبهمها، فقال تعالى: {وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ} [النساء: 23] وظن عبد الله أن قوله: {ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ} [النساء: 23] راجع إلى الأول والثاني، فبينوا له أنه إنما يرجع إلى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، وأن القول بِحِلِّها خلاف كتاب الله تعالى، ففرق بين الزوجين”([75]).

وجاء في رسالة سيدنا عمر أمير المؤمنين إلى أبي موسى الأشعري: “لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهُدِيتَ فيه لرشدك أن تراجعَ الحقَّ؛ فإن الحقَّ ومراجعته خيرٌ من الباطل والتمادي فيه”([76]). هذا في حق القاضي، والمفتي مثله.

وهذا الحسن بن زياد اللؤلؤي استُفتي في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه، فاكترى مناديًا ينادي: أن الحسن بن زياد استُفتي يوم كذا وكذا في مسألة، فأخطأ، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه، فمكث أيامًا لا يفتي، حتى وجد صاحب الفتوى، فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب كذا وكذا([77]).

فيتبين لنا من هذه الآثار وغيرها: وجوب الرجوع إلى الحق عندما يتجلى الصواب، ويتبين الخطأ والتقصير.

والواجب على المفتي لتفادي ذلك أن يتأمَّل المسألةَ المسؤول عنها ويتصورها تصورًا دقيقًا -إذ الحكم على الشيء فرعٌ عن تَصوُّره، ويتأتَّى مِن التصور الصحيح الحكم الصحيح، وبالعكس ينتج عن الخطأ في التصوير خطأ في الحكم؛ لذا قَرَّر الفقهاء أَنَّ أهم المراحل في الفتوى هي مرحلة تصوير الواقعة- وأن يتريث في الجواب، ولا يتسرعَ في الإفتاء، وخاصَّة في المسائل والنوازل المستحدثة التي تحتاج إلى إمعان النظر والفكر، وأحيانًا إلى مشاورة أهل العلم من المتخصصين بشأنها، والتأني في الفتوى قبل الجواب، وإمعان النظر قبل إصدار الفتوى هو سمة من سمات السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم([78])، ويعد من أهم الآداب العلمية في الفتوى، كما سيأتي بيانه في المبحث الأول من هذا الفصل، فربما يتوهم البعض “أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يبطئ ولا يخطئ أكمل به وأجمل من أن يعجل فيضل ويضل”([79]).

 

 

 

سابعًا: التساهل في الفتوى:

التساهل في الفتوى: هو أن لا يتثبت المفتي، فيفتي في المسألة أو النازلة المعروضة عليه بلا إمعانِ نظر أو إعمالِ فكر، أو أن يبادر إلى الفتوى لهوًى في نفسه، أو يتبع الحيل المحرمة، إلى نحو ذلك.

والتساهل في الفتوى على هذا النحو أمرٌ غيرُ مقبول شرعًا، لا خلافَ في حرمته، وَرَدَ عن أهل العلم ذمُّه، ومن عرف عنه ذلك لم يجُزْ استفتاؤه في شيء من أمور الدين.

قال ابن الصلاح: “لا يجوز للمفتي أن يتساهلَ في الفتوى، ومن عُرِف بذلك لم يجز أن يُستَفْتَى”([80]).

وهو ما أكده النووي بقوله: “يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرف به حَرُم استفتاؤه”([81]).

هذا ويلاحظ أنه وإن كان ورد عن أهل العلم ذمُّ التساهل في الفتوى، إلَّا أنه كثيرًا ما يلتبس ويختلط الأمر على بعض الناس حتى يتخذوا مِن ذم العلماء للتساهل وتحريمه ذريعةً لذم مراعاة التيسير في الفتيا، وفي هذا خلطٌ بين أمرين مختلفين تمامًا في خصائصهما وأحكامهما؛ فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى ورد عنهم أيضًا استحسان التيسير على الناس، والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشقُّ عليهم التزامُه، فالعلماء يفرقون بين الأمرين في الاصطلاح وإن تقارَبَا من حيث اللغة؛ قال الفيروزآبادي: “اليُسْرُ: ضد العسر، وتيسَّر واستيْسَرَ: تسهَّلَ ضد العُسْرِ، وتيسَّرَ واسْتَيْسَرَ: تَسهَّلَ، ويَسَّرهُ: سَهَّلَهُ، يكون في الخير والشر… والتَّياسُرُ: التَّساهُلُ”([82]). ومنه الحديث الشريف: ((تياسروا في الصداق))، أي تساهلوا فيه ولا تغالوا([83]).

والتيسير في الشريعة هو: تشريع الأحكام على وجه رُوعيت فيه حاجة المكلَّف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع([84]).

والإفتاء -كما أوضحنا سابقًا- هو: تبيينُ الحكم الشرعي عن دليلٍ لمن سأل عنه فيما نزل به من وقائعَ، أو فيما أشكل عليه من أحكام الشرع([85]).

فالفتوى هي تبيينٌ لحكم الشرع في حادثةٍ ما لمن سأل عنه، وهذا التبيينُ لا بد أن يكون صادرًا عن دليل معتبر شرعًا.

ودَور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها اجتهادات أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة مستحدثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج للاجتهاد، وفي كلا الحالتين يجب على المفتي أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب لواقعة السؤال؛ سواء كان بترجيحه لأحد أقوال المجتهدين، أو باجتهاده ونظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه الفتوى على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعلى كل حال فعليه أن يضع نصب عينيه أن قصد الشريعة المباركة إلى التكليف هو قصد إلى ما يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم الدنيوية والأخروية بما لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام تشريف مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد وردت في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصوصٌ صريحة تدل على أصالة التيسير في الإسلام، وتنفي أن يكون العسر أو الحرج أو الإضرار بالمكلفين مقصدًا شرعيًّا، بالإضافة إلى أن المكلفين مأمورون بالرفق والتيسير على النفس وعلى الغير، وأولى الناس بذلك هم العلماء؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعَه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة لمعرفة حكم الله فيها وما ينبغي عليهم أن يفعلوه.

والله تعالى يقول: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، قال الخازن: “أي قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان أحب إلى الله تعالى”([86]).

ويقول عز وجل أيضا: {مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [المائدة: 6].

قال الإمام الرازي: “اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ} [الحج: 78]، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ))، ويدل عليه أيضًا أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: ((مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ))”([87]).

وفي السنة الشريفة قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))([88]).

قال الإمام المناوي: “((يَسِّروا)) بفتحٍ فتشديد: أي خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام لئلا يثقُل عليهم فينفروا؛ وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويرغِّب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل ((ولا تُعسِّروا)): لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهْيٌ عن ضده تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقَّبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا ولو اقتصر على ((يسروا)) لصدق على كل من يَسَّر مرة وعَسَّر كثيرًا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره”([89]).

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ))([90]).

وفي هذا حثٌّ لمن تولَّى أمر الإفتاء ألَّا يشق على الأمة، بل عليه بالرفق والتيسير ما دام في الأمر سعةٌ ولم يترتب على التيسير فيه إثم، وعنها أيضًا رضي الله عنها أنها قالت: ((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ))([91]).

وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها: ((وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ))([92]).

قال الحافظ ابن عبد البر: “في هذا الحديث دليلٌ على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله؛ قال تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى، ورخص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بيِّنًا… روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم… عن معمر قال: إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل واحد”([93]).

والناظر في الأحكام الشرعية يرى بوضوحٍ أنها مبنيةٌ على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعدُّ من مزايا الشريعة الإسلامية مقارنة بما قبلها من الشرائع السماوية؛ كما جاء في قوله تعالى في وصف نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡ} [الأعراف: 157].

ولهذا فقد قرر العلماء قاعدة: “المشقة تجلب التيسير”، واعتبروها إحدى القواعد الخمس الكبرى التي عليها مدار الفقه الإسلامي([94])، كما قرروا قواعدَ أخرى محورها ومدارها الرئيسي هو التيسير أيضًا؛ كقاعدة: “الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم”، وقاعدة: “لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه”، وقاعدة: “الخروج من الخلاف مستحب”، وغير ذلك.

ويقول الإمام الشاطبي: “إن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق:

فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة: كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض، وكذلك سائر العبادات؛ فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك، وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية، وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها، والسنة أول قائم بذلك.

وبالنسبة إلى النفس أيضًا يظهر في مواضع، منها مواضع الرخص: كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية.

وفي التناسل من العقد على البُضْع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناءً على ترك المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.

وبالنسبة إلى المال أيضًا في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السَّلَم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها، ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار. وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج؛ لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه”([95]).

نعود فنقول: بأن التيسير والتخفيف في الفتوى ومراعاة حال المستفتي أمرٌ لا مانع منه، بل مطلوب شرعًا، وهو يختلف عن التساهل به، وقد فرَّق الفقهاء أمثال ابن الصلاح والنووي وابن حمدان وغيرهم بين التساهل المحرم شرعًا وبين التيسير المرغوب فيه شرعًا([96]):

يقول الإمام النووي مفرقًا بين التساهل والتيسير على الناس لتخليصهم مما يشق عليهم: “يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرِفَ به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأسَ بالمبادرة، وعلى هذا يُحمَل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل: أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبُّع الحِيَل المحرمة أو المكروهة، والتمسُّك بالشُّبَه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره، وأما مَنْ صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليصٍ من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل؛ لقوله تعالى لسيدنا أيوب: {وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡ} [ص: 44] لَمَّا حلف ليضربن امرأته مئة جلدة([97])، وعليه يُحمَل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصةُ من ثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد”([98]).

ويتجلَّى مما سبق: أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين التساهل والتيسير في الإفتاء؛ فالتساهل ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث، وهو نوع من الاستهتار والتلاعب، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم، وإدراكٍ لمقاصدِ الشريعة وأدلتها وطرائقِ الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم، فالتيسيرُ نوع من إعمال القواعد العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمَّة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع([99]).

  • أمثلة:

مثال لفتوى وُجِد فيها من المفتي التساهل في الجواب:

لو سُئل أحد المفتين عن: هل تمويلُ المشاريع عن طريق المشاركة المتناقصة جائز شرعًا أم لا؟

فأجاب بما يلي:

“تُعَدُّ المشاركة في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية لمرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، كما أنها تسعى لتلبية احتياجات المتعاملين مع المصارف الإسلامية؛ وذلك لما تحققه من مصلحة للطرفين، وعلى الرغم من هذا الجانب الاقتصادي للمشاركة، فإن عقد المشاركة المتناقصة قد حصل فيها خلاف بين العلماء المعاصرين، وذلك ناتج عن كون صورتها مستحدثة -لم تكن موجودة من قَبْل-كما سَبَق القول بذلك.

وعقدُ المشاركة المتناقصة مِن حيث الواقع التطبيقي للدول المعمول فيها بهذا العقد تكون في المال المنقول وغير المنقول، والمقصود بالمنقول: هو كل ما يمكن نقْلُه وتحويلُه من مكان إلى آخر، ويشمل النقود والعروض والمكيلات والموزونات، كالسيارات مثلًا، وأَمَّا المال غير المنقول فهو العقار، أي ما يقابل المنقول من حيث إنه ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدُّور والأراضي.

ويتَلَخَّص الجدل الفقهي الدائر في هذه الصورة من حيث التكييف في خمسة أقوال:

القول الأول: أن المشاركة المتناقصة هي صورة من صور عقود المضاربة الفقهية.

القول الثاني: أن المشاركة المتناقصة هي عقد إجارة مع وعد بالبيع في صورة العقار.

القول الثالث: أن المشاركة المتناقصة صورة من صور المزارعة والمساقاة.

القول الرابع: أنها شركة ملك تتضمن وعدًا من المصرف ببيع حصته تدريجيًّا للشريك الآخر.

القول الخامس: أَنَّ المشاركة المتناقصة صورة من صور شركة العنان السابق تعريفها.

والذي أراه راجحًا في مسألة “المشاركة المتناقصة”: أَنَّ عقد المشاركة المتناقصة من حيث الإجمال جائزٌ ولا حرج فيه شرعًا؛ وذلك وَفْق مجموعة من التصورات والضوابط التي لا بد من توفرها فيه، وهي الآتي ذِكْرُها:

أَوَّلًا: أَنَّ الشركة المتناقصة لا تخرج في حقيقتها عن شركة العَنَان أو المضاربة، كما أَنَّ شروط شركتَي العنان والمضاربة متحققة في المشاركة المتناقصة.

ثانيًا: عدم الاشتراط المباشِر في عقد الشركة على البيع والشراء لنصيب البنك، بل من الممكن أَنْ يَقع هذا في عقد منفصل في بداية عقد الشراكة بين البنك والعميل، وهذا الشرط أَقَرَّه إجمالًا مجمع الفقه الإسلامي.

وبناءً على هذا يمكن صَوْغ ذلك: بأَنْ يكون عندنا في بداية التعاقد عقدان: الأَوَّل منهما عقد شركة، والآخر عقد بيع، يَحْصُل الأول منهما أَوَّلًا، ثم يتبعه الثاني متراخيًا أثناء مدة العقد الأول.

ثالثًا: تصوير عقد المشاركة المتناقصة على أَنَّه بيع بالتقسيط؛ وذلك للخروج مِن الاتهام لهذه العلاقة العقدية في الشركة المتناقصة بأنها تمويل بقرض؛ بحيث تكون صورتها: أن يتَقدَّم العميل للبنك بطلب لشراء عقارٍ مثلًا، وبعد عدة إجراءات إدارية معينة يوافق البنك على طلب العميل، ويَدْفَع العميل جزءًا من المبلغ -أي مبلغ العقار- ويدفع الجزء الباقي من ثمنه بعد فترة معينة مثلًا، ثم تحصل بعد ذلك شركة بين البنك والعميل على إدارة العقار بحيث يكون الفرق بين قيمة البيع الآجل والبيع الناجز للعقار هو ما يحصل البنك عليه نظير إدارته للعقار طيلة الفترة التي يدفع فيها العميل باقي قيمة العقار.

رابعًا: تخريج عقد المشاركة المتناقصة على أَنَّه من قبيل بيع الوفاء؛ فقد اتجه بعض المعاصرين إلى وجود تشابه بين بيع الوفاء والمشاركة المتناقصة”. انتهى الجواب.

فالملاحظ على هذه الفتوى:

أَنَّ هذه التصوراتِ الأربعةَ السابقة فيها تحايلٌ واضحٌ على التحليلِ، وإيقاع في الشبهات؛ ذلك أن الأَوْلَى هو البُعْد عن العقود التي فيها شبهة التحريم.

 

ثامنًا: الإفتاء للضرورة (مفتي الضرورة):

الأصل في المفتي أن يكون فقيهًا مجتهدًا قادرًا على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها؛ حتى يكون قادرًا على بيان الحكم الشرعي للمستفتي كما ينبغي:

قال الآمدي: “وأما المفتي فلا بد وأن يكون من أهل الاجتهاد”([100]).

وقال ابن الهمام: “واعلم أن ما ذُكِرَ في القاضي ذُكِرَ في المفتي، فلا يفتي إلا المجتهد، وقد استقرَّ رأي الأصوليين على أنَّ المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سُئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي”([101]).

فعلى هذا فالاجتهاد شرط في المفتي، فإذا لم يتحقق هذا الشرط لأي سبب كان، واقتضت الضرورة أن يكون هذا الشخص متصدرًا للإفتاء، فهو في هذه الحالة يكون مقلدًا، وللعلماء في الاستعانة به (مفتي الضرورة) أو (المقلد) كلام:

فالحنفية يرون صحة تولية المقلد؛ لأنه مقابل المجتهد، والاجتهاد شرط أولوية لا شرط صحة، فالأولى تولية المفتي المجتهد، فإن تعذَّر لخلو الزمان جاز تولية المقلد: جاء في الدر المختار للحصكفي: “(والاجتهاد شرط الأولوية)؛ لتعذُّرِهِ على أنه يجوز خلو الزمن عنه عند الأكثر. نهر، فَصَحَّ توليته العامي ابن كمال ويحكم بفتوى غيره”([102]).

والبعض يشترط أن تكون هناك ضرورة لذلك: يقول ابن حمدان: “فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاصٍ آثم؛ لأنه لا يعرف الصواب وضده، فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده”([103]).

وقد علل ابن الصلاح قول المانعين من التقليد بأن: “قول من قال: لا يجوز أن يفتي بذلك. معناه أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه ويحكيه عن إمامه الذي قلده، فعلى هذا مَنْ عددناه في أصناف المفتين من المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين، وأدوا عنهم، فعُدُّوا معهم، وسبيلُهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه إن كان ذلك منه اكتفاءً بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال فلا بأسَ”([104]).

فعلى هذا إذا كانت هناك حاجة لتقليد المفتي المقلد، (مفتي الضرورة) فلا مانع من ذلك كما نص عليه بعض الفقهاء: يقول ابن القيم عند تناول مسألة (الفتوى بالتقليد): “والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصحُّ الأقوال، وعليه العمل”([105]).

ويقول العلامة تقي الدين ابن دقيق العيد: “توقيف الفُتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حَرَجٍ عظيم، أو استرسال الخلق في أهوائهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمَّة المتقدمين إذا كان عدلًا متمكنًا من فهم كلام الإمام، ثم حَكَى للمقلِّد قوله فإنه يكفيه؛ لأن ذلك مما يَغلُب على ظَنِّ العامي أنه حُكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفُتيا”([106]).

فالأصل على ذلك أن يكون من يتولى منصب الإفتاء مستجمِعًا لشروط الإفتاء ومنها: أن يكون مجتهدًا؛ فإن تعذر ذلك لسبب أو لآخر، فلا بأسَ بالاستعانة بـ “مفتي الضرورة” حينئذ.

وإنما قلنا: إذا تعذَّر ذلك لسبب أو لآخر؛ وذلك لأن حَصر مفهوم التَّعَذُّر أو الضرورة في صورة عدم المجتهد ليس صحيحًا؛ لأن التَّعَذُّر كما يكون حِسِّيًّا بفقد الأصل، يكون معنويًّا بعدم كفاية الأصل لتلبية الحاجة لكثرة المستفتين، وبُعْدِ بلادهم، ونُدرة المجتهدين، وصعوبة الوصول إليهم، صحيحٌ أن وسائل الاتصالات الحديثة جعلت العالم كله كقرية واحدة، إلا أنه لا يزال من المُتَعَذِّر على المفتي المجتهد أن يجيب بنفسه عن الكَمِّ الهائل من الاستفتاءات اليومية الآتية من مختلف أنحاء العالم، وغالبها استفتاءات مكررة؛ لذا فالضرورة أو الحاجة إلى المفتين المقلدين لا تقل عن الحاجة إلى المفتي المجتهد.

هذا ويتأكد الاستعانة بـ(مفتي الضرورة) مع مؤسسية الفتوى في دور وهيئات الفتوى حول العالم، ومع اتساع العمران وكثرة المستفتين وورود الكم الهائل من الأسئلة والاستفسارات الواردة إلى تلك المؤسسات عبر وسائل الفتوى المختلفة (كالهاتفية، أو المشافهة بالحضور إلى مقر المؤسسة والجلوس مع المفتي، أو عبر وسائل التقنية الحديثة كالبريد الإلكتروني، إلى غير ذلك)، يتعذر معه توفير عدد من المفتين الذين تنطبق عليهم شروط المفتين المجتهدين التي نص عليها الفقهاء وعلى رأسها الاجتهاد.

ومن هنا يتجلَّى دور المفتي المقلد (مفتي الضرورة) كعلاج لهذه الأزمة في ضوء مجموعة من الضوابط والآليات، والتي منها:

  • وجود المفتي المجتهد على رأس المؤسسة الإفتائية؛ بحيث تكون المؤسسات الإفتائية من أكثر من مستوى إفتائي: الأول، ثم الأعلى، حتى نصل إلى المفتي على قمة ورأس المؤسسة الإفتائية.
  • يكون مفتي الضرورة في المستوى الإفتائي الأول؛ حيث إنَّ نوعية الأسئلة التي تطرح يوميًّا على دور ومؤسسات الفتوى أغلبها مكررة لا تحتاج إلى مزيدِ بحث واجتهاد، مثل الأسئلة في العبادات من صلاة وحج زكاة، وفي المعاملات من بيع وشراء، إلى نحو ذلك. أو أسئلة غير مكررة تحتاج إلى مزيد اجتهاد وبحث، وذلك كأسئلة النوازل والمستجدات والمعاملات الحديثة، وهذا يكون من شأن المفتين الذين استجمعوا شروط الإفتاء.

وعلى ذلك تستطيع دور وهيئات الإفتاء حول العالم أن تقوم بدورها المنشود في الإجابة عن هذا العدد الهائل من الأسئلة الواردة إليها، ولا يكون هناك تأخير في الإجابة على الناس، وتفرغ المؤهلين من أهل الاجتهاد للبحث والاجتهاد في النوازل والمستجدات المستحدثة والتي تحتاج إلى مزيد بحث وإعمال فكر.

وختامًا نقول: إنَّه يجوز إفتاء المفتي المقلد (مفتي الضرورة) واستفتاؤه إذا كان قد حصَّل جملة صالحة من علوم الشريعة واللغة، وكان ضابطًا عدلًا فقيه النفس حَسَن التصور مُدْركًا للواقع، بشرط استناده في ما يفتي به إلى المفتي المجتهد سواء أكان مجتهدًا مطلقًا أم كان مجتهدًا في مذهب أحد الأئمة المجتهدين المتبوعين، فيقلده في تخريج الأحكام على نحو ما مر بيانه.

 

تاسعًا: الإفتاء بخلاف مذهب المفتي المنتسب إليه:

المفتي هو المخبر عن الحكم الشرعي بدليله، وعليه أن يجتهدَ في إنزال الحكم على الواقعة المسؤول عنها بما يؤديه إلى اجتهاده.

ومع هذا التقرير نفرق بين حالتين:

الأولى: هو سؤال المستفتي عن حكم المسألة أو الواقعة في مذهب معين كالحنفي أو المالكي مثلًا، وفي هذه الحالة ينبغي على المفتي أن يخبره بالحكم الشرعي وفق ذلك المذهب الذي عيَّنه السائل، ولا يجوز له أن يخبره بغيره إلَّا على وجه الإضافة إليه أو البيان؛ بأنَّ غيرَه أصوب أو أرجح، أو هو المفتَى به، أو عليه الفتوى، إلى نحو ذلك.

فذكر ابن الصلاح أَنَّ الإمام أبا بكر القفَّال المروزي كان يقول: “لو اجتهدتُ فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، فأقول: مذهب الشافعي كذا وكذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأنه جاء ليستفتي على مذهب الشافعي، فلا بد من أن أُعرِّفه بأني أفتي بغيره”.

ثم قال: “وحدثني أحد المفتين بخراسان أيام مُقَامي بها عن بعض مشايخه: أن الإمام أحمد الخوافي قال للغزالي في مسألة أفتى فيها: أخطأتَ في الفتوى. فقال له الغزالي: من أين والمسألة ليست مسطورة؟ فقال له: بلى في المذهب الكبير([107])، فقال له الغزالي: ليست فيه، ولم تكن في الموضع الذي يليق بها، فأخرجها له الخوافي من موضع قد أجراها فيه المصنف استشهادًا. فقال له الغزالي عند ذلك: لا أقبل هذا واجتهادي ما قلت، فقال له الخوافي: هذا شيء آخر، أنت إنما تسأل عن مذهب الشافعي، لا عن اجتهادك، فلا يجوز أن تفتي على اجتهادك، أو كما قال”([108]).

الحالة الثانية: سؤال المستفتي عن حكم المسألة، ولا يقصد مذهب إمام بعينه، أو قول فقيه معين، وإنما يريد معرفة الحكم الشرعي الموافق لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم([109]).

وهذه الحالة هي حَلْقة من أهم الحلقات التي تبين وتبرز مَلَكات المفتي؛ لأنَّ “التمذهب الفقهي” -والذي هو: “التزام المفتي مذهبًا فقهيًّا معينًا”- من أهم المكونات المعرفية للمفتي.

ويتفرَّع عن هذه الحالة عدة قضايا، وهي تُعدُّ مسارات صحيحة مُوصِّلة للإفتاء في قضايا النوازل المعاصرة، وهذه الأسئلة هي:

  • هل يجب على المفتي الإفتاء بمذهب فقهي معين؟
  • هل يجوز للمفتي في فتواه الخروج عن مذهبه الفقهي الذي يعتقده صوابًا؟
  • هل يجوز للمفتي في فتواه الخروج عن المذاهب الفقهية الأربعة؟
  • هل معنى ضعف القول الفقهي في مذهب معين أنَّه لا يجوز الإفتاء به؟

وقبل جواب هذه الأسئلة ينبغي ذكر القواعد المتعلقة بالخلاف الفقهي؛ بمعنى: إذا ثبت أَنَّ في المسألة المسؤول عنها خلافًا فقهيًّا، فما ضوابطُ المفتي للتعامل معه؟ ذلك أنَّ الخلاف في القضايا الفكرية عمومًا والفقهية خصوصًا هو سنة كونية، فالخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام لم تسلم منه أمة من الأمم، ومما كتبه الله تعالى على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها، وهذا الافتراق هو حكم كوني، وفي ذلك يقول تعالى: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡ} [هود 118، 119]. ثم إن الاختلاف ما دام بين أهل الحق وفي حدود الشريعة وضوابطها فإنه يكون سائغًا ولا يُذَم، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعًا لهذا الاختلاف الحميد {وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ} [آل عمران: 159]، فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم، وقد تختلف وجهات نظر أصحابه، وما كان ذلك ليطغى على التقدير والاحترام المتبادل بينهم.

يقول الحَجْوي في “الفكر السامي”: “وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمه مخطئ في تلك المسألة بعينها؛ لِمَا قام عنده من الدليل على خطئه في ظنه، لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أدَّاه إليه دليله، لا نقص يلحقه في ذلك، ويعرفون لكل عالم حقَّه، ويُقِرُّون له بالفضل، ويحترمون فكره، فلم يكن الخلاف ضارًّا لهم ولا شائنًا، بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة، فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا”([110]).

وقد روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُو حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا}))([111])، والأشياء المسكوت عنها تكون عادة موطن الخلاف؛ لأن انعدام النص في المسألة من مثارات الخلاف([112]).

والأقوال في الاستشهاد على هذا الجانب كثيرة، والقاسم المشترك بينها أنَّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمة برأي معين، فإن صَعُبَ عليها الأخذ بمذهب أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره بضوابطَ معينة.

وإزاء البحث عن آلية للتعامل مع الخلاف، أو بعبارة أدق تأصيل هذا التعامل: لم نجد مؤلَّفًا جامعًا لشتات هذا الموضوع، وإنما هي مقتطفاتٌ يحتاج بعضها إلى جهد ليس بالقليل، لا سيما وأنَّه قطب الرحى الذي تدور عليه الفتوى في كل عصر، أو على الأقل هو أحد مقوماتها، وهذه الآليات في حقيقتها يصحُّ جعلُها آدابًا للخلاف، لكن قبل تعدادها يلزم التفرقةُ بين الخلاف السائغ وغير السائغ، أو المقبول والمردود، أو المعتبر وغير المعتبر، وكلُّها ألفاظ مترادفة؛ وذلك لأنَّ تأصيلَ مثلِ تلك الآداب ينبني على اعتبار الخلاف، والخلاف المعتبر أو السائغ هو الخلاف الذي له حظٌّ من النظر؛ أي الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي، وما أحسن قول القائل:

وليس كل خلاف جاء معتبرًا إلا خلاف له حظٌّ من النظر

ومنه يتضح الخلاف غير المعتبر، ويزداد هذا الوضوح بذكر شروط الخلاف المعتبر، فبضدها تتميز الأشياء، فقد وضع العلماء شروطًا لجعل الخلاف معتبرًا:

الأول: أن يكون مأخذ الخلاف قويًّا، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به، ومعنى ضعفه كونه مخالفًا لنص قطعي الثبوت والدلالة، أو صحيح القياس أو الإجماع([113])، فما خالف ذلك فلا احتمال في كون مخالفه هو الصواب.

قال الدردير في الشرح الكبير وهو يتحدث عمَّا يُنْقض من الأحكام وما لا يُنْقض: “ولا يجوز لمفتٍ علم بحكمه -أي: بحكم القاضي- أن يفتيَ بخلافه، وهذا في الخلاف المعتبر بين العلماء، وأما ما ضعف مُدْرَكه بأن خالف نصًّا أو جلِيَّ قياسٍ أو إجماعًا فينقض”([114]).

وقد عبَّر عن الشرط السيوطي فقال: “أن يقوى مُدْرَكه بحيث لا يعد هفوة”، ثم مثَّل لخلافٍ ضَعُفَ مُدْرَكه قائلًا: “ومن ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضلَ لمن قوي عليه، ولم يبالِ بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنًا”([115]).

يقول الخطيب الشربيني: “ولا ينكر العالِم إلا مجمعًا على إنكاره، لا ما اختلف فيه، إلا أن يرى الفاعل تحريمه، فإن قيل: قد صرَّحوا بأن الحنفي يحد بشرب النبيذ مع أن الإنكار بالفعل أبلغ منه بالقول، أجيب بأن أدلة عدم تحريم النبيذ واهية، وبهذا فرِّق بين حدنا الشارب به وعدم حدنا الواطئ في نكاح بلا ولي”([116]).

أما الأقوال المبنية على أدلة مُختَلَف في حجيتها؛ وهي ما عدا النصوص قطعية الثبوت، وصحيح القياس، والإجماع، فلا يكون الخلاف فيها مقبولًا ومعتبرًا إلا إذا كان الدليل نفسه مما يجوز الاختلاف في ثبوته أصلًا كالسنة غير المتواترة مثلًا.

الثاني: أن يكون المخالِف من العلماء المعتبرين، وفي ذلك يقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: “بلوغ السول” تحت عنوان: “استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية”: “وشرطوا في المستثمِر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهُّل خاص وقوة خاصة ومَلَكَة قوية يتمكَّن بها من تمحيص الأدلَّة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع”([117]).

الثالث: أن لا يخرج القول المخالِف عن مجموع الأقوال في المسألة الواحدة؛ بمعنى أن لا يكون فيه إحداث قول جديد؛ لأن دوران أقوال السلف والأمة على قولين في الاختلاف أو ثلاثة مثلًا يتضمن إجماعًا منهم على أن الحقَّ لا يخرج عن تلك الأقاويل؛ لأن الأمة لا تجتمعُ على ضلالة، واعتقاد أن الحق خرج عن مجموع أقاويلهم وأنهم جميعًا قد أخطؤوا إصابةَ الحق يلزم منه اعتقادُ أنهم قد أجمعوا على ضلالة!([118]).

وتأسيسًا على ما سبق: فالخلاف على قسمين:

الأول: ظاهرٌ جَلِيٌّ يستند إلى أدلةٍ وقواعدَ، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهو الخلافُ المعتدُّ به، ويندرج تحت هذا النوع ما لا يحصى من المسائل، وفي ذلك يقول الشاطبي: “والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل”([119]).

الثاني: ما ضعف مُدْرَكه، وحاد عن مسلك الاستدلال قائلُه، فهذا يُرَدُّ على صاحبه، ويُنْكَر على قائله، وهذا القِسْم يحمل بين طياته الوقائع التي فيها ردُّ الأئمة بعضهم على بعض، وإنكارهم شاذ الأقوال.

فعلى ذلك فالمسائلُ الفقهية إما مُجمَع عليها، وإما مُختلَف فيها، والناظر في كثير من المسائل الخلافية يجدُ أنها أُخرِجت من إطارها الخلافي الذي بُحِثَت فيه بين الفقهاء إلى اعتبارها من الثوابتِ القطعية، ولعل من أهم أسباب هذا غياب الضوابط التي بُحِثَت هذه المسائل ضمنها، ومما زكَّى هذا الغيابَ أنَّ من تلك الضوابط ما هو كامن في نفس المجتهد لم تنطق بها عباراته، وهذا يفسِّر -كما سبق قوله- أننا لم نجد مؤلَّفًا جامعًا لشتات هذا الموضوع، وإنما هي مقتطفات يحتاج بعضها إلى جهد ليس بالقليل؛ لا سيما وأن تلك الضوابط هي قطب الرحى الذي تدور عليه الفتوى في كل عصر، أو على الأقل هي أحد مقوماتها. وهذه الضوابط في حقيقتها يصحُّ جعْلُها قواعدَ أو آدابًا للخلاف، ومن أهم خصائصها أنها ذات طابع تركيبي؛ بعضها يُفهَم في ضوء بعض.

ومن تلك القواعد أو الآداب ما أصَّله جمهور الفقهاء من القول بمراعاة الخلاف، وقد نصَّ على هذه القاعدة كثيرٌ من الفقهاء والمجتهدين، وأعملوها في كثير من المسائل الخلافية، ما يدل على تأصُّل هذا المعنى في أذهانهم، ومنهم الإمام الزركشي، والعز بن عبد السلام، والتاج السبكي، والسيوطي([120]).

وتكاد تُجمِع كلمةُ الفقهاء والأصوليين على أَنَّ هذا المنزع في التعامل مع المسائل الخلافية مستحب، إلَّا أن الاستحباب قد يخف أو يتأكد حسب ما يعترض المسألة محل النظر، والنصوصُ في ذلك مستفيضة، ومن ذلك ما قاله الزركشي: “الخلاف يتعلق به مباحث: الأول: يستحب الخروج منه”([121]).

والمستفاد من عبارات الفقهاء والأصوليين: أن معنى مراعاة الخلاف أو الخروج منه هو امتثال مقتضى الخلاف، أو إعمال المجتهد دليلَ خصمه، ومعناه: ترتيب آثار التصرف عليه -أي على التصرف- مع الحكم عليه في ذاته بعدم المشروعية، أو أن مَن يعتقد جواز الشيء يترك فعله إن كان غيره يعتقده حرامًا، كذلك في جانب الوجوب يستحب لمن رأى إباحة الشيء أن يفعله إن كان من الأئمَّة مَنْ يرى وجوبه([122]).

ويستدلُّ على صحَّة هذه القاعدة بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: احْتَجِبِي مِنْهُ؛ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ))([123]).

فقد احتاط النبي صلى الله عليه وسلم وراعى كلا الحكمين: حكم الفراش، وحكم الشَّبَه، فبإلحاقه الولد بصاحبه -وهو زَمْعَة- راعى حكم الفراش، وبأمره سودة رضي الله عنها بالاحتجاب من الولد الملحق بأبيها رَاعَى حكم الشَّبَه. يقول الإمام النووي في وجه الاحتياط: “فأمرها به -أي: بالاحتجاب- ندبًا واحتياطًا؛ لأنه في ظاهر الشرع أخوها؛ لأنه ألحق بأبيها، لكن لما رأى الشَّبَه البيِّن بعتبة بن أبي وقاص خشي أن يكون من مائه، فيكون أجنبيًّا منها، فأمرها بالاحتجاب منه احتياطًا”([124]).

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا))([125]).

فقد حَكَم النبي صلى الله عليه وسلم ببطلان العقد، ومقتضاه عدم اعتبار ما يترتب عليه، لكنه عقَّبه بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع، وهو ثبوت المهر، وبمعنى آخر فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحدٍ من الدليلين بعض ما يقتضيه الآخر.

ويستأنس لهذه القاعدة بحديث النعمان بن بشير رضـي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ…))([126]).

ومن الشبهات ما اختلف أهل العلم في تحليله وتحريمه.

ومن تلك القواعد أيضًا في التعامل مع الخلاف الفقهي: عدمُ الإنكار في مسائلِ الخلاف، ومعنى عدمِ الإنكار في مسائلِ الخلاف أنه لا يجبُ على المكلف أن يعاتب شخصًا آخر أو ينهاه عن العمل برأيه لأنه مخالف لما يراه، مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث -اليد أو اللسان أو القلب- سبيلًا للتغيير ما دام غيره يفعل ذلك متبعًا لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية.

وما ذكرناه من عدم وجوب الإنكار في مسائل الخلاف هو مذهبُ جمهور الفقهاء([127])، وروي عن الإمام أحمد أنه يُنْكَر المختلف فيه([128])، وفرَّق الشيخ ابن تيمية وتلميذُه ابن القيم بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد([129]).

وعند النظر والتحقيق حيال هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها لفظي، وتقرير ذلك: أن المراد بمسائل الخلاف عند الجمهور تلك المسائل التي خفيت دلالتها، إما لعدم الإجماع عليها، أو لعدم ورود دليل فيها أصلًا، فكلُّ مسألةٍ لم يرد فيها نص، أو ورد فيها نص قاطع في ثبوته فقط تُعَدُّ خلافية؛ وذلك يعني أن كلَّ نص قطعي الثبوت لا يعني رفْعَ الخلاف في جهة دلالته، إلَّا إذا انعقد الإجماعُ على تعيين أحد المعاني المحتملة شأنه شأن قول الحاكم في رفع الخلاف.

وهذا الضابط ينطبق على بعض المسائل الكلامية وأكثر المسائل الفقهية؛ وذلك لأن من المعلوم أن أهلَ الاجتهاد لا يُؤثَر عنهم اختلاف معتبر في المسائل المنصوص عليها نصًّا قطعيًّا ثبوتًا ودلالة، وإنما كان اختلافهم -ولا يزال- حول المسائل غير المنصوص عليها مطلقًا، والمسائل المنصوص عليها نصًّا ظنيًّا ثبوتًا ودلالة، أو نصًّا ظنيًّا ثبوتًا دون الدلالة أو العكس.

ومن تلك القواعد أيضًا في التعامل مع الخلاف الفقهي: قاعدة “مَن ابتُلِي بشيء من المختلف فيه فليُقلِّد من أجاز تخلصًا من الوقوع في المحرم”؛ فإنَّ ذلك من التيسير على الناس في أمور دينهم، ورفع المشقة والحرج عنهم، وتصحيح أفعالهم ومعاملاتهم ما أمكن، ولَأَنْ يقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خيرٌ له من أن تُغَلق أمامَه كلُّ الأبواب، فلا يجد أمامه من سبيلٍ إلا اقتحام المحرم، وقد كان له سعة بأن يقلد من أجاز.

وقد جاء تقرير هذه القاعدة في كلامِ غير واحد من العلماء؛ منهم: شيخ الإسلام البيجوري، والعلامة الشرواني: ففي حاشية البيجوري على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي -عند قول الشارح: (ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة)- قال معلقًا: “عَدَّه البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر، وهو المعتمد، وقال داود الظاهري بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل: الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما))، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن من ابتُلِي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليدُ ما تقدم ليتخلص من الحرمة”([130]).

وفي حاشية الشرواني على التحفة معلقًا على شرح ابن حجر الهيتمي لمتن المنهاج: “(ويحل استعمال كل إناء طاهر إلا ذهبًا وفضة فيحرم) استعماله في أكل أو غيره وإن لم يُؤْلَف كأن كَبَّهُ على رأسه واستعمل أسفله فيما يصلح له كما شمله إطلاقهم، ولو على امرأة أكحلت به طفلًا لغير حاجة الجلاء؛ للنهي عن ذلك مع التوعُّد عليه بما قد يؤخذ منه أن ذلك كبيرة”.

حيث قال: “(قوله: إن ذلك كبيرة) عبارة شيخنا: عده البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر، وهو المعتمد، وقال داود الظاهري بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيه، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل: الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما أخذًا بظاهر الحديث ، وهو: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما))، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليدُ ما تقدم ليتخلص من الحرمة”([131]).

وفلسفة هذه المسألة ومبناها: أن الفقه من باب الظنون -كما قال البيضاوي- وقال: “فالمجتهد إذا ظنَّ الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به، والظن في طريقه”، وقد علَّق الإسنوي في شرحه قائلًا: “وتقرير هذا موقوف على مقدمة، وهي: أن الحكم بأمر على أمر إن كان جازمًا مطابقًا لدليل فهو العلم، كعلمنا بأن الإله واحد، وإن كان جازمًا مطابقًا لغير دليل فهو التقليد كاعتقاد العامي أن الضحى سنة، وإن كان جازمًا غير مطابق فهو الجهل كاعتقاد الكفار ما كفرناهم به، وإن لم يكن جازمًا نُظر: إن لم يترجح أحد الطرفين فهو الشك، وإن ترجَّح فالطرف الراجح ظن، والمرجوح وَهْمٌ.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير السؤال، فنقول: الفقه مستفادٌ من الأدلة السمعية، فيكون مظنونًا؛ وذلك لأن الأدلةَ السمعية إن كانت مختلفًا فيها كالاستصحاب فهي لا تفيدُ إلا الظنَّ عند القائل بها، والمتفق عليها بين الأئمة هو: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

أما القياس فواضح كونه لا يفيد إلا الظن، وأما الإجماع فإن ما وصل إلينا بالآحاد فكذلك، ووصوله بالتواتر قليل جدًّا، وبتقديره فقد صحح الإمام في المحصول، والآمدي في الإحكام ومنتهى السول أنه ظني.

وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن، وأما المتواتر: فهو كالقرآن متنه قطعي، ودلالته ظنية؛ لتوقفه على نفي الاحتمالات العشرة، ونفيها ما ثبت إلَّا بالأصل، والأصل يفيد الظن فقط، وبتقدير أن يكون فيه شيء مقطوع الدلالة، فيكون من ضروريات الدين، وهو ليس بفقه على ما تقدم في الحد”([132]).

كل ما سبق تقريره إنما هو توطئة للإجابة عن تلك الأسئلة التي سبق طرحها في الحالة الثانية عن سؤال المستفتي عن حكم المسألة، ويمكن تلخيص حالات الأسئلة السابق ذكرها إلى نوعين:

النوع الأول: وهو: هل للمفتي في الجواب أن يفتي بقول ضعيف؟

والنوع الثاني: هل يجوز للمفتي في الجواب الخروج عن مذهبه الفقهي الذي يراه صحيحًا؟

وجواب النوع الأول أنَّ: المفتي الذي لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد المطلق له أن ينظر في أقوال أهل العلم للاختيار منها وترجيح بعضها على بعض -إذا كان أهلًا للنظر والترجيح- كما ينظر المجتهد المطلق في أدلة الأحكام التي قد تحتاج للجمع بينها أو ترجيح بعضها على بعض، لكن إذا نص العلماء المجتهدون في مذهب إمام معين على أن بعض الأقوال المذكورة في كتب المذهب ضعيفة أو مرجوحة، فهل يجوز للمفتي أن يأخذ بهذه الأقوال الضعيفة ويفتي بها، لا سيما إذا كان يترتب على ذلك تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.

والمراد بالأخذ بالقول الضعيف: هو أخذ المفتي بالقول المرجوح لدى العلماء السابقين المحققين في كل مذهب، وترك القول الذي يراه راجحًا في نظره لغرض شرعي كضرورة أو حاجة طرأت بعد تغيُّر جهة أو أكثر من جهات الفتوى الأربع السابق الحديث عنها.

ولأهل العلم في هذه المسألة أقوال ثلاثة:

القول الأول: أَنَّ الأصل في الفتوى اختيار القول الأقوى، وأن المفتي يبذل جهده في الترجيح بين الأقوال المتعارضة، وأن يحاول الوصول إلى الراجح من الأدلة وإلى الأقوى من الأقوال.

قال السبكي: “وقد اتفق الأكثرون على جواز التمسُّك بالترجيح بالدلائل الظنية -دون القطعيات- وقالوا: العمل بالراجح واجب. وأنكر القاضي أبو بكر الباقلاني الترجيح في الظنيات، وقال: عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف، ولا يرجح أحد الظنين وإن تَفَاوَتَا. وهو قول مردود، واستدل البيضاوي على وجوب تقديم الراجح بإجماع الصحابة رضي الله عنهم والأمة قاطبة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، وذلك في وقائعَ كثيرة منها أنهم قدَّمُوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين حيث قالت: ((فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا))، على خبر أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الماء من الماء)) أخرجه مسلم. والوقائعُ في هذا كثيرة، وعليه درج السابقون قبل اختلاف الآراء”([133]).

وظاهر هذا الكلام منع الأخذ والعمل بالقول المرجوح ولو كان ثَمَّ حاجة أو ضرورة، وهو ظاهر كلام الشاطبي([134])، ويمكن الاستدلال لهذا القول بما يلي:

1- أن للضرورة حكمَها، وهي مبينة عند الفقهاء، فمتى وقعت عولجت بما يقتضيه الحال، وقرِّر لها الحكمُ الكلي الملاقي لها.

2- أن في فتح هذا الباب فتحًا لباب اتباع الهوى من غير ضرورة ولا حاجة؛ مما يؤدي إلى الحكم بالتشهي، ويخرم الانضباط في الأحكام.

3- أن ذلك يؤدي إلى انسلاخ الناس من الدين بترك اتباع الدليل، والانسياق وراء ضعيف الأقوال وشاذها، وربما أدى إلى خرق الإجماع بالتلفيق بين الأقوال.

4- أن ذلك يؤدي إلى الاستهانة بالدين؛ إذ يصير بذلك سيَّالًا لا ينضبط([135]).

القول الثاني: أَنَّ للمفتي الأخْذَ بالقول المرجوح في خاصة نفسه، ولا يجوز ذلك في الفتيا، وهذا ما يميل إليه ابن حجر الهيتمي الشافعي([136]).

ويمكن تعليل ما ذهب إليه بأنه لا يصار إلى العمل بالقول الضعيف إلا عند الضرورة، والمفتي لا يتحقق الضرورة بالنسبة لغيره كما يتحققها من نفسه، فالمنع لأجل ألا تكون الضرورة محققة، لا لأجل أنه لا يعمل بالضعيف إذا تحققت الضرورة.

القول الثالث: جواز الأخذ والعمل في الفتوى بالقول المرجوح عند الاقتضاء من ضرورة أو حاجة بشروط. وبه قال كثير من أهل العلم:

يقول ابن عابدين: “إذا اتفق أبو حنيفة وصاحباه على جواب لم يجز العدول عنه إلا لضرورة”([137]).

ونقل ابن عابدين عن صاحب جامع الفصولين قوله: “قد اضطربت آراؤهم وبيانهم في مسائل الحكم للغائب وعليه ولم يصف ولم ينقل عنهم أصل قوي ظاهر يبنى عليه الفروع بلا اضطراب وإشكال، فالظاهر عندي أن يتأمل في الوقائع، ويحتاط ويلاحظ الحرج والضرورات، فيفتى بحسبها جوازًا أو فسادًا”([138]).

ويقول الطاهر بن عاشور: “وقد يقع الإغضاء عن خللٍ يسيرٍ ترجيحًا لمصلحة تقرير العقود كالبيوع الفاسدة إذا طرأ عليها بعض المفوِّتات المقررة في الفقه، وقد كان الأستاذ أبو سعيد بن لب مفتي حضرة غرناطة في القرن الثامن يفتي بتقرير المعاملات التي جرى فيها عرف الناس على وجه غير صحيح في مذهب مالك إذا كان لها وجه ولو ضعيفًا من أقوال العلماء”([139]). وهذا فيه اعتبار مصلحة استقرار العقود والمعاملات.

ويقول السبكي: “إذا قصد المفتي الأخذ بالقول المرجوح مصلحةً دينية جاز”([140]).

وقال ابن رجب الحنبلي: “وقد ينزل القول الراجح المجتهد فيه إلى غيره من الأقوال المرجوحة إذا كان في الافتاء بالقول الراجح مفسده، وقرأتُ بخط القاضي مما كتبه من خط أبي حفص أن ابن بطة كان يفتي أن الرهن أمانة، فقيل له: إن ناسًا يعتمدون على ذلك ويجحدون الرهون، فأفتى بعد ذلك بأنه مضمون”([141]).

ويمكن أن يعلَّل هذا القول بما يلي:

1- أن للضرورة والحاجة حكمَهما، وتقدر بقدرها عند وقوعها.

2- أن المكلف وافق دليلًا في الجملة.

3- أن الدليل المرجوح يصير أقوى نظرًا لمراعاة الحال التي استدعته([142]).

ويمكن التوفيق بين أقوال العلماء في النهي عن العمل بالمرجوح دون الراجح، والتشنيع على مَنْ فعل ذلك، وبين أقوالهم في جواز ما ذكر: بأن النهي محمول على العمل اختيارًا دون الوقوع في الضرورة أو تحقيق مصلحة راجحة، أو ما يشبه ذلك، وهو ما نصَّ عليه ابن عابدين في شرح منظومة عقود رسم المفتي بعد أن ذكر شيئًا من الأقوال الضعيفة في المذهب الحنفي: “وفي المعراج عن فخر الأئمة: لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضعِ الضرورة طلبًا للتيسير لكان حسنًا، انتهى. وبه عُلِمَ أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، فما مرَّ من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الإفتاء به محمول على غير موضع الضرورة”([143]).

والذي نراه: أَنَّ للمفتي في جوابه لمسألة المستفتي أن يعمل بالقول المرجوح إذا توفرت شروطه، وهي كالتالي:

1- ألَّا يخالف القولُ المعدولُ إليه دليلًا صريحًا من الكتاب والسنة بحيث لا يمكن الجمْعُ بينه وبين أدلة القول الراجح أو المشهور، بل تكون أدلةُ القول المعدول إليه هي الراجحةَ في هذه الواقعة؛ إذ إنَّ أوصاف النازلة تنطبقُ على القول المعدول إليه؛ فكأنَّ الاختلافَ بين القولين اختلافُ تنوعٍ لا اختلاف تضاد؛ لأن القولَ الراجح ليس هو عيْنَ القولِ المعدول إليه في هذه النازلة؛ إذ إنَّ النازلة قد زادت وصفًا أو نقصت قيدًا مؤثِّرا سوَّغ العدول عن هذا القول للقول الآخر.

يقول الشاطبي: “فيرجع الأمر إلى أنَّ النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن به من القرائن المرجحة”([144]).

2- أن يثبت القول المعدول إليه بطريق صحيح لقائله؛ لأن القول إن لم يثبت عن قائله فكأن المقلد يقلد عدمًا.

3- أن يكون العدول للقول الآخر لضرورة أو حاجة مما هو في رتبة الضروريات والحاجيات لا التحسينيات؛ لأن ما كان في هذه الرتبة لا يكون موجبًا للإعراض عن المشهور، وهذا ما نصَّ عليه القائلون به.

4- أن يكون العمل بالقول المعدول إليه مقتصرًا على النازلة محل الفتوى، ولا يكون ذلك عامًّا في كل واقعة، بل إذا زال الموجب عاد للأصل، فإنَّ من القواعد المقررة في هذا الباب أنه إذا وجبت مخالفة أصل أو قاعدة وجب تقليل المخالفة ما أمكن، (فالضرورة تُقدَّر بقدرها) و(ما جاز لعذر بطل بزواله)([145]).

5- أن يكون الناظر في ذلك متمكنًا من تقدير الضرورات والحاجات، ويكون ذلك هو الدافعَ له، لا مجرد التشهي أو الهوى.

أما جواب النوع الثاني: فهو أَنَّ وظيفة المفتي تقتضي أصالةً معالجة النوازل الفقهية، وهذه المعالجة تتطلَّب التمكُّن التام من طرق التخريج والتكييف الفقهي كونه أحد مراحل الفتوى كما سبق، وهذا -أي: التكييف- أيضًا يقتضي ضرورة ضبطٍ منهجيٍّ يتحقق في إطار مذهب فقهي معين، ونسق اجتهادي واضح المعالم وبَيِّن الخطوات، سار عليه أعلام مجتهدون وأسهموا فيه بجهودهم عبر عدة قرون([146])، وهو ما يُعبَّر عنه بالالتزام المذهبي الذي يُعدُّ في الحقيقة بالنظر للمفتي له آثاره الإيجابية أحيانًا والسلبية أخرى.

فآثاره الإيجابية هي:

  • عدم الاضطراب في التعامل مع النوازل الفقهية؛ فالتمذهب يمكِّن الفقيه من اعتماد منهجية مطردة في التعامل مع النص ومستجدات العصر.
  • البعد عن التشرذم المذهبي الذي قد يؤدي إلى اختلاف الممارسات الفقهية في المجتمع الواحد، مما يثير لدى غير المتفقهين مشكلاتٍ ومنازعات.
  • تجنُّب الآراء الشاذة والأقوال المهجورة وما تُحدِثُه من بلبلة وفوضى داخل المجتمع.
  • سهولة الاطلاع على الرصيد الفقهي في المسائل، فالبحث داخل إطار المذهب يختزل الزمن ولو جزئيًّا مقارنة مع البحث في مختلف المذاهب.
  • الانسجام المنهجي في مجموع الفتاوى؛ بحيث يقف المتفقه والمشتغل بها على الخطوات الرئيسة التي يتبعها المفتي، فيسهل انتقاله من مرتبة التقليد إلى الاتباع المتبصر، أو على أقل تقدير يبعث في نفس المجتهد قدرًا من الاطمئنان اعتمادًا على ما للمذاهب الفقهية من رصيد فقهي قائم على الثقة والأمانة وسعة الانتشار.

ومع هذا فإن هناك مظاهرَ يصحُّ وصْفُها بالسلبية بشأن التمذهب الفقهي في صياغة الجواب عن النازلة المسؤول عنها، وهي:

  • وقوع المفتي في التعصُّب المذهبي بالدفاع المستميت عن مذهبه، سواء أكان على خطأ أم صواب.
  • قصور نظر المفتي في اطلاعه على ما للمذاهب الأخرى من أقوالٍ أو حِجَاج.
  • حرمان المستفتي من أوجه التيسير الذي يسببه الالتزام الحرفي للمفتي بمذهبه الفقهي.

وبإزاء هذه الإيجابيات أو السلبيات تجاه تمذهب المفتي بمذهب فقهي واحد، نجد أنَّ المذاهب الفقهية الأربعة (المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) قد حظيت دون غيرها بعدة خصائص -على تفاوت فيما بينها- أكسبتها الصدارة بين المذاهب الأخرى، من حيث المتابعة، والتدوين، والتنقيح، والتحقيق، والتخريج، والتفريع، وغير ذلك مما لم يتوفر لغيرهم من أئمة الاجتهاد، حتى عدَّ العلماء أن القضاء يُرَدُّ بمخالفة ما أجمعت عليه المذاهب الأربعة، وفي ذلك يقول ابن نجيم الحنفي: “مما لا ينفذ القضاء به: ما إذا قضى بشيء مخالف للإجماع وهو ظاهر، وما خالف الأئمَّة الأربعة مخالف للإجماع وإن كان فيه خلاف لغيرهم، فقد صرَّح في التحرير أنَّ الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة؛ لانضباط مذاهبهم، وانتشارها، وكثرة أتباعهم”([147]).

ويقول الـمَرْدَاوي الحنبلي: “مدار الإسلام واعتماد أهله قد بقي على هؤلاء الأئمة وأتْباعهم، وقد ضبطت مذاهبهم وأقوالهم وأفعالهم، وحررت ونُقِلَت من غير شك في ذلك، بخلاف مذهب غيرهم وإن كان من الأئمَّة المعتمد عليهم، لكن لم تضبط الضبط الكامل، وإن كان صَحَّ بعضها فهو يسيرٌ، فلا يكتفى به؛ وذلك لعدم الاتباع، وأيضًا فإنَّ أقوالهم إما موافقة لهؤلاء الأئمة الأربعة أو خارجة عن ذلك، فإن كانت موافقةً فقد حصل المقصود ويحصل بها التقوية، وإن كانت غيرَ موافقةٍ كانت في الغالب شاذَّةً لا يعوَّل عليها. وأما غيرهم من أرباب البدع كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم فلا اعتبارَ بقولهم المخالف لأقوال الأئمَّة وأتباعهم، ولا اعتمادَ عليها، لكن إن ذكرتها فعلى سبيل الإعلام والتبعية، وقد يذكرها العلماء ليردُّوا على قائلها وينفروا عنه ويعلموا ما فيه من الدسائس”([148]).

وما قاله الـمَرْدَاوي من أنَّ أغلب الأقوال المخالفة للمذاهب الأربعة شاذة وضعيفة صحيحٌ، لكنَّ الشذوذ والضعف غير مسوِّغ للتَرْكِ والإهمال كما سبق تقريره في جواب الحالة الأولى؛ لأنَّ رُجحَان الدليل قد يفترق عن رجحان العمل، بحيث يُعمَل بالقول الضعيف؛ لحدوث ضرورة، أو لجلْبِ مصلحةٍ راجحة أو دَفْعِ مفسدة.

وصورة تَرْكِ المفتي المتمذهب مذهبَه والانتقال إلى غيره ليس الاختلاف فيها بين الفقهاء على إطلاقه؛ وذلك لأننا قررنا في الحالة الأولى أنه يجوزُ للمفتي في صياغته للفتوى العَمَلُ بالقول الضعيف فقهًا بضوابطَ وشروطٍ، وهذا نوع من الخروج عن مذهبه الفقهي.

لكنَّ الصورة التي اختلف فيها الفقهاء في ترك المفتي المتمذهب مذهبه هو أن يكون ذلك في بعض المسائل لا لقوة دليل، أو لأي مسوِّغ شرعي مقبول، بأن كان تشهيًا؛ كأن يأخذ مِن كل مذهب الأهون، لا اتباعًا للدليل ولا عملًا بالأحوط خروجًا من الخلاف، سواء كان المذهب الـمُنتَقل إليه من المذاهب الأربعة أو خارجها، ومثال ذلك أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا، ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، ومثل أن يكون طالبًا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له، ثم إذا طُلِبَت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة، أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج ينكر عليه ويهجره، فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر، والعلماء اختلفوا في فعل ذلك وفيمن هذه صفته على أقوال:

القول الأول: يحرم، ويفسَّق من فعل ذلك، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو التحقيق من مذهب الشافعية([149])، إلا أنَّهم قالوا: إن كان انتقاله إلى مذهب من المذاهب المدونة فالأوجَه أنه لا يفسَّق، وقيَّد الشهاب الرملي بما إذا تغلب طاعاته معاصيه، وإن انتقل إلى غير المذاهب المدوَّنة فإن كان في العصر الأول يعني الصحابة فلا يفسَّق، وإلَّا فلا، بل نقل غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك، وممن نقل الإجماعَ على فِسْقِ مُتتبِّع الرُّخَص تشهيًا ابنُ عبد البر، والنفراوي([150]).

واستدلوا على ذلك بأنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد كما ذكر ابن تيمية([151])، كما أننا لو قلنا بجواز الانتقال تشهيًا بناء على أنه أخْذٌ بأقوال بعض المجتهدين لكان المنع أولى؛ لأن النفس تميلُ إلى الدَّعَةِ والراحة والهروب من مشقة التكليف، وذلك يؤدي إلى التفلُّت من أحكام الشرع في الغالب، فكان الواجب منعه سدًّا للذريعة المؤدية للفساد، وقد ذمَّ الله اتِّبَاع الهوى لأجل إشباع حظوظ النفس وشهواتها، فقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُ} [النجم: 23]، وتَتبُّع الرُّخَص دون حاجة أو دليل مقتضٍ يُعَدُّ من اتباع الهوى المؤدي إلى الضلال، وهذا ما نص عليه الشاطبي حيث بيَّن أن ذلك يؤدي إلى: “الاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالًا لا ينضبط، فلا يحجر النفوس عن هواها، ولا يوقفها عند حد”([152]).

يضاف إلى ذلك أنَّ الانتقال من مذهب إلى آخر تشهيًا قد يؤدي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق الإجماع([153]).

ويمكن الاستدلال لمن قال بأنه لا يفسَّق بالانتقال إلى رأيٍ من آراء الصحابة: بأن الصحابة ليسوا كغيرهم؛ إذ لهم من الفضل والمزية ما ليس لغيرهم، فقد شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاصروا الوحي والتنزيل بلا واسطة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم نقلًا عن الشافعي: “وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا”([154]).

كما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لبعضهم بالعلم والحفظ والفهم، أو شهد لهم بذلك، وقد زكَّاهم الله تعالى، وأمَرَنا باتباعهم عمومًا في القرآن، وهذا مما يعطي الثقة في أقوالهم في المسألة الواحدة، وإن اختلفت فيها آراؤهم، وهو ما يبيحُ لنا الأخْذَ بأحدها في وقت، والأخذ بالآخر في وقت آخر.

القول الثاني: لا يُفسَّق مطلقًا، وإن انتقل تشهيًا وتتبعًا للرخص، وهو قول بعض الحنفية، وبه قال ابن عبد السلام، وابن أبي هريرة من الشافعية، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو إسحاق المروزي من الحنابلة في إحدى الروايتين عنه؛ حيث نقل عنه إطلاق جواز تتبعها، وهو لازمُ مذهبِ عمر بن عبد العزيز؛ حيث أجاز الأخذ بما شاء عند الاختلاف، وأشار إلى أنَّ الاختلاف سعة، وكذا القاسم بن محمد، وسفيان الثوري([155]).

واستدلوا بأحاديثَ، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم))([156]).

ووجه الدلالة فيه: قياس الاختيار من أقوال العلماء على الاختيار من أقوال الصحابة رضي الله عنهم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((وكان يحب ما يخفف عنهم))([157])، أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ما يخفف عن أمته، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فلا يُمنَع أحد من أتباعها أن يأخذ بالرخص ما دام في الأخذ بها نوع يسر عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه))([158]).

ووجه الدلالة: أن الأخذ بما فيه يُسْرٌ محبوب إلى الله تعالى، كما أن الأخذ بالعزيمة محبوب لديه كذلك، فدلَّ ذلك على جواز الأخذ بالرخص لأنها من اليسر الذي يحب الله الأخذَ به، يضاف إلى ذلك أن التشديداتِ التي ذكرها من منع الانتقال مطلقًا إنما هي لِكَفِّ الناس عن تتبُّع الرُّخَصِ، فإذا انتفى المحذور المترتب على الأخذ بالرخص جاز العمل بها، كما أن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماءَ المختلفين من غير نكير، سواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم؛ لأن مَن جعل المصيب واحدًا وهو الصحيح لم يُعَيِّنه، ومن جعل كلَّ مجتهد مصيبًا فلا إنكار على من قلَّده بالصواب. يقول الشاطبي استدلالًا لهذا الرأي: “من جهة القياس: الله غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى”([159]).

والذي نراه: أَنَّ مَن انتقل من مذهب إلى آخر أو من قول مجتهِد إلى قول مجتهِد آخر تشهيًا لا لمسوِّغ شرعي لا يفسَّق شريطة أن لا يكون الـمُنتقِل مجتهدًا مطلقًا؛ وذلك لاتفاق الأصوليين على أن المجتهد المطلق إذا اجتهد فغلب على ظنه حكم لم يجز له تقليد غيره، أي لا يجوز له الانتقال([160]).

أما مَن دُون المجتهد المطلق فقال قوم بالجواز، وقال بالمنع آخرون، يقول الغزالي بعد ذكره الخلاف فيمن دون المجتهد المطلق: “والمسألة ظنية اجتهادية”([161])، والمعنى أننا لو قلنا بجواز الانتقال لكان الأمر قريبًا.

ومن الشروط أيضًا: أن يكون القول الـمُنتقَل إليه معتبرًا قوي المأخذ -أي الدليل-، فإن كان ضعيفًا فلا يؤبه به، وأولى منه ما لا دليل عليه أصلًا، مع مراعاة أن لا يلزم من الانتقال التلفيق وهو القول بكيفية لا يقول بها أحد، أو يكون القصد من فعله الهروب من تكاليف الشرع بإسقاطها كلية، أو بالتخلص من تنفيذ جزء منها، ومضمون هذا الشرط هو ما أشار إليه ابن عابدين عند الحديث عن الانتقال من مذهب الحنفية إلى الشافعية، فبعد كلام طويل قال: “…وإنما أطلنا في ذلك لئلا يغتر بعضُ الجهلة بما يقع في الكتب من إطلاق بعض العبارات الموهِمَة خلاف المراد فيحملهم على تنقيص الأئمة المجتهدين؛ فإن العلماء حاشاهم الله تعالى أن يريدوا الازدراء بمذهب الشافعي أو غيره، بل يطلقون تلك العبارات بالمنع من الانتقال خوفًا من التلاعب بمذاهب المجتهدين نفعنا الله تعالى به وأماتنا على حبهم آمين”([162]).

أمثلة:

  • مثال لفتوى اختير رأي فيها مخالف لمذهب المفتي الفقهي:

لو سُئل أحدُ المفتين حنفي المذهب عن: “حكم مالية المنافع”.

فأجاب كتابة: “اختلف الفقهاء في اعتبار المنافع أموالًا: فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أن المنافع أموال:

أما المالكية: فقد قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار”: “والمعروف من كلام العرب أن كل ما تُمُوِّل وتُمُلِّك فهو مال”([163]).

وقال العلامة المازري في “شرح التلقين”: “ومنافع الأعيان مما يصحُّ العقد عليها بِعِوَضٍ، كما للإنسان أن يؤاجر عبده، ويكري داره، فلولا أنها مما يُتموَّل لم يصح عقد الإجارة فيها”([164]).

وأما الشافعية: فقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في “المهذب”: “المنافع كالأعيان في الملك والعقد عليها”([165]).

وقال الإمام الرافعي في “الشرح الكبير”: “المنافع أموال كالأعيان”([166]).

وأما الحنابلة: فقد قال الإمام ابن قدامة في “المغني”: “والمنافع بمنزلة الأعيان؛ لأنه يصحُّ تمليكُها في حال الحياة وبعد الموت، وتُضمن باليد والإتلاف، ويكون عوضها عينًا ودينًا، وإنما اختصت باسم كما اختص بعض البيوع باسم كالصرف والسَّلَم”([167]).

وقال العلامة البهوتي في “شرح منتهى الإرادات”: “المنفعة مال متقوم”([168]).

واستدل الجمهور على ما قالوه بأنَّ مالية المنافع ثابتةٌ بالكتاب والسنة، والدليلُ على ذلك عقد الإجارة؛ حيث جعل الشارعُ المنفعة في هذا العقد مقابلة بالمال، وهو عقدٌ من عقود المعاوضات، كما أجاز الشارع كونها مهرًا في قصة موسى وشعيب عليهما السلام، والمهر لا بد أن يكون مالًا، كما أنَّ المنفعة هي الغرض المقصود في جميع الأموال، والناس يبذلون الأعيان لأجلها، بل إنَّ قِيَم الأعيان تختلفُ باعتبار منافعها، فيستحيل أن لا تكون مالًا، كما أنَّ سبب التمول هو إقامةُ المصالح، وهو يكون بالمنافع لا بالأعيان وحدها، ويضاف إلى ذلك أنَّ عدم اعتبار المنافع أموالًا يؤدي إلى تضييعِ الحقوق، ويغري الظلمة بالاعتداء على منافع الأعيان التي يملكها غيرهم، وفي ذلك من الفساد والجور ما يناقضُ مقاصدَ الشريعة وعدالتها([169]).

أما الحنفية فقالوا: إنَّ المنافع ليست أموالًا متقومة في حد ذاتها، غير أنهم يعتبرون المنافع أموالًا متقومة إذا ورد عليها عقد معاوضة، كما في الإجارة، وذلك على خلاف القياس، وما كان على خلاف القياس يقتصرُ فيه على مورد النص ولا يتعداه إلى غيره.

ونظرة الحنفية مبناها على أنَّ المالَ هو كلُّ شيءٍ مادي يمكن حيازته وتملُّكه وادخاره لوقت الحاجة: كالنقود، والأثاث، والفضة، والذهب، وغيرها، ومن ثم قالوا: إنَّ المنافعَ ليست مالًا باعتبارها مالًا معنويًّا غير محسوس ولا يمكن حيازتها ولا وضع اليد عليها.

قال العلامة السرخسي في “المبسوط”: “المنافع ليست بمال متقوم، وإنما تتقوم بالعقد”([170]).

واستدل الحنفية على ذلك بأنَّ صفة المالية تثبت للشيء بالتموُّل، والتموُّل يعني ادخارَ الشيء لوقت الحاجة إليه، والمنافع لا تبقى زمانين لكونها أعراضًا، فعندما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى، فتكون عدمًا، والمعدوم ليس بشيء، فلا يتصور فيها التموُّل، كما أنه لا يتصور إتلافُ المنافع عند وجودها؛ لأن الإتلافَ لا يحلُّ في المعدوم، وإذا امتنع تصور الإتلاف فلا ضمان فيها.

والراجحُ هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنَّ من مقاصدِ الشريعة حفْظَ الأموال، وفي القول بمالية المنافع حفظٌ لها ومنعٌ للاعتداء عليها، وهذا هو ما أخذ به مجمعُ الفقه الإسلامي الدوليُّ المنبثقُ عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مناقشته موضوع “حقوق المؤلف والـمبتكر والـمخترع”؛ حيث تثبت لها صفة المالية مثل سائر المنافع، فإذا وقع تعدٍّ عليها وجب التعويض، وجاء ذلك في القرار رقم (43) في مؤتمره الخامس بالكويت؛ حيث نصَّ فيه على ما يأتي:

“أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العُرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتموُّل الناس لها، وهذه الحقوق يعتدُّ بها شرعًا، فلا يجوزُ الاعتداءُ عليها.

ثانيًا: يجوز التصرُّفُ في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية، ونقل أيٍّ منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا.

ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حقُّ التصرُّف فيها، ولا يجوز الاعتداءُ عليها” انتهى نص الفتوى.

فالملاحظ على هذه الفتوى: أنَّ المفتي رغم أنَّه حنفي المذهب -على الافتراض السابق الذي طرحناه- فإنَّه لم يُرجِّح مذهبه الفقهي في خصوص هذه المسألة، لا سيما وأنَّ مذهب الجمهور هو ما انعقد عليه ما يُشْبِه التوافق الإجماعي -أي: رأي مجمع الفقه الإسلامي الدولي- بخصوصها.

وبعد هذا التوضيح والبيان لبعض القواعد العامة المتعلقة بالمفتي: نَعْرِض لأهم آدابه التي يجب أن يتحلى بها ليلتف الناس حوله، ويكون مصدرَ ثقةٍ لهم، فيهرعوا إليه بسؤالهم عن كل ما يخصُّهم وما يستجدُّ لهم من نوازلَ ومستجدات، وبذلك يكون عونًا لهم على بيان الحق، ويرشدهم إلى سبيل الرشاد.

وهذه الآداب بعضها يتعلَّق بالجانب العلمي للمفتي من التأني في الفتوى، وذكر الدليل، إلى غير ذلك، والبعض الآخر يتعلَّق بالجانب السلوكي من إخلاص نيته، وحُسنِ تعامله مع مستفتيه، إلى غير ذلك، على النحو التالي.

وعلى هذا نعرض في مبحث أول: الآداب العِلْمية التي يجب توفرها في المفتي، وفي مبحث آخر: الآداب السلوكية التي يجب أن يتحلى بها المفتي.

([1]) المحكم، لابن سيده المرسي، (1/ 172)، ط. دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الأولى، 1421هـ-2000م. ولسان العرب، لابن منظور، (3/ 361)، مرجع سابق.

([2]) المصباح المنير، (2/ 510).

([3]) المحكم، لابن سيده، (9/ 385)، مرجع سابق. ولسان العرب، لابن منظور، (1/ 206)، مرجع سابق.

([4]) تاج العروس، للزبيدي، (2/ 12)، مرجع سابق.

([5]) التعريفات، للجرجاني، (ص: 15)، ط. دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى، سنة: 1403هـ-1983م.

([6]) التوشيح شرح الجامع الصحيح، للسيوطي، (8/ 3630)، ط. مكتبة الرشد- الرياض، الطبعة: الأولى، سنة: 1419هـ- 1998م.

([7]) المصباح المنير، للفيومي، (1/ 9)، مرجع سابق. والتيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي، (1/ 53- 203)، ط. مكتبة الإمام الشافعي- الرياض، الطبعة: الثالثة، سنة: 1408هـ- 1988م.

([8]) الصحاح، للجوهري، (2/ 664)، مرجع سابق. ولسان العرب، لابن منظور، (4/ 309)، مرجع سابق. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، (1/ 329)، ط. دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، الطبعة: الأولى – 1412هـ.

([9]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 106)، مرجع سابق.

([10]( كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق. وانظر أيضا: بحر المذهب للروياني، (11/ 89)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة: 2009م. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص: 29)، مرجع سابق. والبحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، (8/ 359)، ط. دار الكتبي، الطبعة: الأولى، سنة: 1414هـ- 1994م. والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، (6/ 289)، ط. دار الكتاب الإسلامي.

([11]( آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 19)، مرجع سابق.

([12]( سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/ 483)، ط. دار الحديث- القاهرة، سنة: 1427هـ- 2006م.

([13]( تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، (16/ 631)، ط. دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة: الأولى، سنة: 1422هـ – 2002م. هذا ولو تتبعنا كتب التراجم والطبقات؛ لوجدنا جملة من المفتيات اللاتي كن يفتين في مختلف العصور.

([14]( بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد القرطبي، الشهير بابن رشد الحفيد، (4/ 243)، ط. دار الحديث- القاهرة، سنة: 1425هـ- 2004م. والبيان في مذهب الإمام الشافعي، للعمراني، (13/ 20)، ط. دار المنهاج- جدة، الطبعة: الأولى، سنة: 1421هـ- 2000م. والمغني، لابن قدامة، (1/ 36)، ط. مكتبة القاهرة، سنة: 1388هـ- 1968م.

([15]( بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، (7/ 3)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الثانية، 1406هـ- 1986م.

([16]( البيان في مذهب الإمام الشافعي، للعمراني، (13/ 20)، مرجع سابق. والمغني، لابن قدامة، (10/ 36)، ط. مكتبة القاهرة، سنة: 1388هـ- 1968م.

([17]( لسان العرب، لابن منظور، (6/ 62)، مرجع سابق. والمصباح المنير، للفيومي، (1/ 166)، مرجع سابق.

([18]( معجم متن اللغة، لأحمد رضا، (2/ 251)، الناشر: دار مكتبة الحياة- بيروت.

([19]( لسان العرب، لابن منظور، (15/ 95)، مرجع سابق. وينظر: تهذيب اللغة، للأزهري، (3/ 155)، مرجع سابق.

([20]( وهذا بخلاف القاضي، فإن من الصفات التي يجب توفرها فيمن يتولى القضاء “النطق”؛ والأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته.

ويمكن القول إجمالًا بأن الشروط الواجب توفرها فيمن يتولى القضاء إضافةً إلى الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والاجتهاد، هي: الحرية، والذكورة، وسلامة حاستي السمع والبصر، والقدرة على النطق.

بعكس المفتي: حيث تصح الفتيا من العبد، والمرأة -على نحو ما سبق- والأخرس والأعمى اتفاقًا، والأصم عند بعض الفقهاء.

ينظر: بدائع الصنائع، (7/ 3)، مرجع سابق. وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 130)، مرجع سابق. والمجموع، للنووي، (20/ 126)، مرجع سابق. وكشاف القناع، للبهوتي، (6/ 294)، مرجع سابق.

([21]( رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 359- 360)، ط. دار الفكر- بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1412هـ- 1992م. وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 9)، ط. دار الفكر- دمشق، الطبعة: الأولى، سنة 1408هـ. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 29)، مرجع سابق.

([22]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 107)، مرجع سابق.

([23]( الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، (11/ 186)، ط. دار إحياء التراث العربي الطبعة: الثانية. وينظر أيضا: كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([24]( قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام، (2/ 135)، ط. دار الكتب العلمية، سنة: 1414هـ- 1991م.

([25]( الفروع، لابن مفلح، (3/ 186)، والمطبوع مع تصحيح الفروع، لعلاء الدين المرداوي، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، سنة: 1424هـ- 2003م. وينظر أيضا: المجموع شرح المهذب، (4/ 102)، مرجع سابق.

([26]) المجموع شرح المهذب، (1/ 41)، مرجع سابق.

([27]( كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([28]( حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 130)، مرجع سابق.

([29]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين، (5/ 359)، مرجع سابق.

([30]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين، (5/ 359)، مرجع سابق.

([31]) وقد قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 169): “وفيه وجه: أنَّه لا تُقبَل فتيا العدو، ولا مَن لا تقبل شهادته له كالشهادة، والوجهان في الفتيا كالوجهين في الحكم، وإن كان الخلاف في الحاكم أشهر”؛ لكون الفتيا أوسع من الحكم والشهادة، وأن حكم الحاكم ملزِم لأطراف الدعوى بخلاف الفتوى، فليس هناك إلزام على المستفتي في الأخذ بها من عدمه. وانظر: أصول الفقه، لابن مفلح، (4/ 1545)، مكتبة العبيكان، الطبعة: الأولى، سنة: 1420هـ- 1999م.

([32]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 106)، مرجع سابق. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 29)، مرجع سابق. وشرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (3/ 502)، ط. عالم الكتب، الطبعة: الأولى، سنة: 1414هـ- 1993م.

([33]) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([34]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 106)، مرجع سابق. وإعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 161)، مرجع سابق.

([35]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 107)، مرجع سابق. واقتبس النووي نصَّ كلام ابن الصلاح في: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، (ص: 20)، دار الفكر – دمشق، الطبعة: الأولى، سنة: 1408هـ.

([36]) الصحاح، للجوهري، (4/ 1543)، مرجع سابق. ولسان العرب، لابن منظور، (1/ 308)، مرجع سابق.

([37]) فتح القدير، للشوكاني، (1/ 68)، ط. دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى، سنة: 1414هـ.

([38]) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لشيخي زاده، المعروف بداماد أفندي، (2/ 151)، ط. دار إحياء التراث العربي. والتعريفات الفقهية، للبركتي، (1/ 161)، مرجع سابق.

([39]( المجموع، للنووي (1/ 41). وينظر: أيضا: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، (6/ 289)، مرجع سابق.

([40]( الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، (5/ 131)، ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت، سنة 1403هـ- 1983م.

([41]) نقل هذا الاتفاق الإمام النووي وغيره. قال النووي: “واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه”، وقال ابن عابدين: “لا يعتمد على فتوى المفتي الفاسق مطلقا”. هذا وقد نقل الكمال بن الهمام قولًا عند بعض الحنفية بصحة فتيا الفاسق؛ وذلك لأنه يجتهد كل الجهد في إصابة الحق حذار النسبة إلى الخطأ.

ونص ابن القيم على صحة فتيا الفاسق لغيره، بشرط أن لا يكون معلِنًا بفسقه داعيًا إلى بدعته، وذلك إذا عم الفسوق وغلب، لئلا تتعطل الأحكام، ويفسَد نظام الخلق، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح.

ينظر: المجموع شرح المهذب، (1/ 42)، مرجع سابق. والدر المختار وحاشية ابن عابدين، (5/ 359)، مرجع سابق. وفتح القدير، لابن الهمام، (7/ 256)، ط. دار الفكر. وإعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 169)، مرجع سابق. وكشاف القناع، للبهوتي، (6/300)، مرجع سابق.

([42]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين، (5/ 359)، مرجع سابق.

([43]) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([44]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، مرجع سابق، (2/ 330).

([45]) صفة المفتي والمستفتي، لابن حمدان، (1/ 147)، ط. دار الصميعي للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، سنة: 1436هـ- 2015م.

([46]) التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي، (8/ 3880)، ط. مكتبة الرشد – السعودية/ الرياض، الطبعة: الأولى، سنة: 1421هـ- 2000م.

([47]( الهَوْنُ والهُوَيْناء: “التؤدة، والرفق، والسكينة”. المحكم والمحيط الأعظم، لأبي الحسن بن سِيدَه، (4/ 428)، ط. دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1421هـ- 2000م.

([48]( الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي، (4/ 192)، ط. المكتبة الإسلامية، سنة 1997م.

([49]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 107)، مرجع سابق.

([50]) صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 29)، مرجع سابق.

([51]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 173)، مرجع سابق. وينظر أيضا: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، (6/ 289)، مرجع سابق.

([52]) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([53]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 107)، مرجع سابق. وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 20). وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 29)، مرجع سابق. والتحبير شرح التحرير، للمرداوي، (8/ 3880)، مرجع سابق. وكشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، مرجع سابق.

([54]) الأحكام السلطانية، للماوردي، (1/ 112)، ط. دار الحديث- القاهرة.

([55]) أخرجه أبو داود في سننه، (3/ 321)، والترمذي في سننه، (5/ 29).

([56]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص: 414)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة: 1411هـ – 1990م. وفتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، لأبي زكريا الأنصاري، (2/ 208)، ط. دار الفكر للطباعة والنشر، سنة: 1414هـ – 1994م.

([57]) أخرجه القرطبي في جامع بيان العلم وفضله، (1/ 61).

([58]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 372)، مرجع سابق.

([59]) وقدَّر الشافعية مسافة القصر ليوجد مفتٍ واحد على الأقل في كل ناحية؛ حيث نصوا على أنه: “يجب تعدُّد المفتي بحيث يكون في كل مسافة قصر واحد”، راجع: حاشيتا قليوبي وعميرة، (4/ 215)، ط. دار الفكر، بيروت، سنة: 1415هـ – 1995م.

([60]) أما عن باقي الشروط التي بها يتعيَّن الإفتاء على المسؤول، فهي: أن يكون المسؤول عالمًا بالحكم بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، وإلَّا لم يلزم تكليفه بالجواب؛ لما عليه من المشقة في تحصيله.

والشرط الثالث: أن لا يمنع من وجوب الجواب مانع: كأن تكون المسألة عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسائل، إلى نحو ذلك.

راجع: التقرير والتحبير، لابن الموقت الحنفي، (3/ 342)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الثانية، سنة: 1403هـ – 1983م، تقديم كتاب الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة، للدكتور عماد أحمد هلال، (1/ 30)، ط. دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، سنة: 1431هـ – 2010م.

([61]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 35).

([62]) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 23)، مرجع سابق. أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 109)، مرجع سابق.

([63]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 35).

([64]) الفتوى في الشريعة الإسلامية، لعبد الله بن محمد بن سعد آل خنين، (2/ 301)، ط. مكتبة العبيكان-الرياض- السعودية، الطبعة: الأولى، السنة: 1429هـ- 2008م.

([65]) الرجوع عن الفتوى -دراسة حالة خطأ المفتي وتقدير حال المستفتي-، (ص: 861)، بحث منشور ضمن الملتقى الدولي الرابع: صناعة الفتوى في ظل التحديات المعاصرة، جامعة الوادي، معهد العلوم الإسلامية، لعام 1441هـ-2019م.

([66]) الفتوى في الشريعة الإسلامية، لسعد آل خنين، (2/ 307)، مرجع سابق.

([67]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 109)، مرجع سابق.

([68]) الفتوى في الإسلام، للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، (ص: 19)، ط. مجلة المقتبس بدمشق. وينظر: أيضا: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 35- 36).

([69]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 172)، مرجع سابق.

([70]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص: 105)، مرجع سابق. وأصول الفتوى والقضاء، لمحمد رياض، (ص: 324)، مرجع سابق.

([71]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 426)، مرجع سابق.

([72]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 109، 110)، مرجع سابق.

([73]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب: ما يحرم من نكاح القرابة والرضاع وغيرهما، (7/ 257)، رقم: (13903). والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، (2/ 425).

([74]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب: ما يحرم من نكاح القرابة والرضاع وغيرهما، (7/ 257)، رقم: (13903). والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، (2/ 425).

([75]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 173)، مرجع سابق.

([76]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون، (1/ 31)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة: الأولى، سنة: 1406هـ – 1986م.

([77]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 423)، مرجع سابق.

([78]) قال ابن القيم: كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرُّع في الفتوى، ويودُّ كلُّ واحد منهم أن يكفيَه إياها غيرُه، فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه بذل اجتهادَه في معرفة حكمها من الكتاب والسُّنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى”. راجع: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 27)، مرجع سابق.

([79]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 111)، مرجع سابق.

([80]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 111)، مرجع سابق.

([81]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 37)، مرجع سابق.

([82]) القاموس المحيط، (1/ 499، 500)، مرجع سابق. وانظر أيضًا تاج العروس، للزبيدي، (14/ 469)، مرجع سابق.

([83]) ينظر: لسان العرب، لابن منظور، (5/ 295)، مرجع سابق. ومجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، لجمال الدين الكجراتي، (5/ 196)، ط. مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة: الثالثة، سنة: 1387هـ – 1967م.

([84]) انظر: مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية، لكمال جودة أبو المعاطي، (ص: 7)، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م.

([85]) انظر: شرح منتهى الإرادات، (3/ 482)، مرجع سابق.

([86]) لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبي الحسن، المعروف بالخازن، (1/ 113)، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، سنة 1415هـ.

([87]) مفاتيح الغيب، للرازي، (11/ 317) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة: الثالثة، سنة 1420هـ.

([88]) متفق عليه.

([89]) فيض القدير، للمناوي، (6/ 461)، ط. المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة: الأولى، سنة: 1356هـ.

([90]) رواه مسلم في الصحيح، (3/ 1458).

([91]) متفق عليه.

([92]) رواه أحمد في المسند، (43/ 109).

([93]) التمهيد، (8/ 146، 147)، مرجع سابق.

([94]) انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص: 7، 8)، مرجع سابق.

([95]) الموافقات، (4/ 350، 351)، مرجع سابق.

([96]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 111)، مرجع سابق. والمجموع شرح المهذب، (1/ 46)، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 37، 38)، مرجع سابق. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (1/ 31، 32)، مرجع سابق.

([97]) صفة الفتوى، لابن حمدان، (1/ 32)، مرجع سابق.

([98]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 37، 38)، مرجع سابق.

([99]) ينظر: فتوى بحثية بعنوان: الفرق بين التيسير والتساهل في الفتوى، على مواقع دار الإفتاء المصرية:

www.dar-alifta.org

([100]) الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (4/ 222)، ط. المكتب الإسلامي، بيروت.

([101]) فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 256)، مرجع سابق.

([102]) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 365)، مرجع سابق.

([103]) صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 29)، مرجع سابق.

([104]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 103)، مرجع سابق.

([105]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 24)، مرجع سابق.

([106]) البحر المحيط، للزركشي، (8/ 360)، مرجع سابق.

([107]) المذهب الكبير هو: نهاية المطلب، تأليف الشيخ أبي المعالي إمام الحرمين الجويني. والخوافي والغزالي من أكابر أصحابه.

([108]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 121)، مرجع سابق.

([109]) وهذا هو حال أكثر المستفتين؛ حيث إنه لا يخطر على قلبه عند سؤاله عن واقعته أو مسألته مذهب إمام معين، وإنما يكون سؤاله وغرضه هو بيان حكمها الشرعي، وما يعمل به فيها، ومدى موافقتها للكتاب والسنة.

([110]) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/220).

([111]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 375)، وقال: “صحيح الإسناد”، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي (2/ 196)، وحسَّن إسناده الهيثمي في المجمع (1/ 208).

([112]) ضوابط الاختبار الفقهي عند النوازل، (ص60)، إصدار خاص من دار الإفتاء المصرية، الطبعة الثالثة، سنة 1442هـ – 2021م.

([113]) ويدخل في ذلك الإجماع القطعي والظني: فالأول الذي اجتمعت فيه شرائطه من اجتماع كل المجتهدين على أمر من الأمور، وهو مع تسليم إمكانه وكونه حجة قطعًا إلا أن النزاع في وقوعه، فلا بد من دخول الإجماع الظني (السكوتي) في هذا الضابط، فإن إجماعات الفقهاء التي نقلت في الفروع المختلفة هي من قبيل الإجماع الظني، ولا يجوز لأحد مخالفتها لأنها حجة.

([114]) الشرح الكبير (4/ 156).

([115]) الأشباه والنظائر (ص137)، وانظر: الموافقات للشاطبي (4/ 172).

([116]) مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (6/ 11).

([117]) بلوغ السول في مدخل علم الأصول، للشيخ محمد حسنين مخلوف، (ص15).

([118]) الإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي، (2/ 413)، وحاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع، (2/ 197).

([119]) الموافقات، للشاطبي، (1/ 105).

([120]) المنثور، للزركشي، (2/ 127، 128)، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، والقواعد الكبرى للعز بن عبد السلام، (1/ 370)، ط. دار القلم، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص136)، ط. دار الكتب العلمية.

([121]) المنثور، للزركشي، (2/ 127).

([122]) ضوابط الاختبار الفقهي عند النوازل، (ص65).

([123]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: تفسير الشبهات، ومسلم في كتاب الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقِّي الشبهات.

([124]) شرح مسلم للنووي (10/ 39)، ط. دار إحياء التراث العربي.

([125]) أخرجه أحمد (6/ 66، 165)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: في الولي، والترمذي في كتاب النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([126]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم (52)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم (1599).

([127]) عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد للدهلوي (ص26)، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، والفروق للقرافي (4/ 257)، ط. دار المعرفة، بيروت، والمنثور للزركشي (3/ 364)، ط. وزارة الأوقاف الكويتية، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص137)، ط. دار الكتب العلمية، والفوائد الجَنِيَّة للفاداني (2/ 333)، ط. دار البشائر، بيروت، والفروع لابن مفلح (2/ 17)، ط. عالم الكتب، وكشاف القناع للبهوتي (1/ 479)، ط. عالم الكتب.

([128]) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 166)، ط. مؤسسة قرطبة.

([129]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 96)، ط. دار الكتب العلمية، وإعلام الموقعين لابن القيم (3/ 288)، ط. دار الكتب العلمية.

([130]) حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع (1/ 41)، بدون طبعة.

([131]) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (1/ 119)، ط. دار إحياء التراث العربي.

([132]) نهاية السول (1/ 25)، ط. عالم الكتب.

([133]) الإبهاج شرح المنهاج، للسبكي، (7/ 2724).

([134]) الموافقات، للشاطبي، (4/ 136).

([135]) الفتوى وأحكامها في الشريعة الإسلامية، ليحيى صالح القايدي، رسالة ماجستير بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة، سنة 1400هـ، (1/ 327).

([136]) الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 304).

([137]) عقود رسم المفتي (ص22)، مركز توعية الفقه الإسلامي، حيدر آباد، الطبعة الثانية.

([138]) حاشية ابن عابدين (4/ 414).

([139]) مقاصد الشريعة الإسلامية (ص183).

([140]) الفوائد المدنية في بيان اختلاف العلماء من الشافعية (ص236).

([141]) الاستخراج لأحكام الخراج، لابن رجب، (ص89)، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

([142]) الفتوى وأحكامها في الشريعة الإسلامية، (1/ 328).

([143]) شرح منظومة عقود رسم المفتي، لابن عابدين، (ص22).

([144]) الموافقات، للشاطبي، (4/ 204).

([145]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص84، 85).

([146]) التمذهب الفقهي دراسة نظرية نقدية، لخالد بن مساعد الرويتع، (ص1680)، رسالة دكتوراه بقسم أصول الفقه، كلية الشريعة والقانون، جامعة الإمام، سنة 1430هـ.

([147]) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص92).

([148]) التحبير شرح التحرير، للمرداوي، (1/ 128، 129)، ط. مكتبة الرشد.

([149]) رد المحتار، لابن عابدين، (5/ 481)، والفواكه الدواني، (2/ 356)، للنفراوي، ط. دار الفكر، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 510)، ط. دار الفكر، وتحفة المحتاج (10/ 112)، ط. دار إحياء التراث العربي، وأسنى المطالب بحاشية الرملي (4/ 286)، ط. دار الكتاب الإسلامي، وفتاوى الرملي (4/ 378)، والإنصاف (12/ 50)، ط. دار إحياء التراث العربي.

([150]) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 927)، ط. دار ابن الجوزي، والفواكه الدواني، للنفراوي، (2/ 356).

([151]) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (20/ 220، 221).

([152]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 102)، ط. دار ابن عفان.

([153]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 103).

([154]) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 150).

([155]) فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 258)، وفيض القدير، للمناوي، (1/ 209)، وجامع بيان العلم، لابن عبد البر، (2/ 898)، والتحبير شرح التحرير، للمرداوي، (8/ 4091- 4093)، وشرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 578)، وشرح الجلال المحلي على جمع الجوامع بحاشية العطار (2/ 441).

([156]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 925)، من طريق سلام بن سليم، وأخرجه الخطيب في الكفاية (ص48)، والديلمي (4/ 75)، من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. ورواه ابن عساكر في تاريخه (19/ 383) من طريق نعيم بن حماد حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب.

([157]) أخرجه البخاري، كتاب المواقيت، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، حديث رقم (590)، (1/ 121).

([158]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، (8/ 333).

([159]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 104، 105).

([160]) المستصفى، للغزالي، (ص368)، ط. دار الكتب العلمية، والإحكام، للآمدي (4/ 204)، ط. المكتب الإسلامي، وقواطع الأدلة، لابن السمعاني (2/ 341)، ط. دار الكتب العلمية.

([161]) المستصفى، للغزالي، (ص369).

([162]) رد المحتار، لابن عابدين، (4/ 80).

([163]) الاستذكار، لابن عبد البر، (5/ 87).

([164]) شرح التلقين، للمازري، (3/ 176).

([165]) المهذب، لأبي إسحاق الشيرازي (2/ 194).

([166]) الشرح الكبير، للرافعي، (10/ 224).

([167]) المغني، لابن قدامة، (5/ 251).

([168]) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (2/ 320).

([169]) التاج والإكليل، لأبي عبد الله المواق المالكي، (6/ 480)، ط. دار الكتب العلمية، ومغني المحتاج للشربيني (3/ 5)، وكشاف القناع للبهوتي، (4/ 374).

([170]) المبسوط، للسرخسي، (5/ 71).

اترك تعليقاً