البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث آثار مراعاة آداب الفتوى

المبحث الأول أثر مراعاة آداب الفتوى على المفتي

82 views

لمراعاة آداب الفتوى بشقيها العلمي والسلوكي على نحو ما سبق -سواء مِن قِبَل المفتي بداية أو المستفتي- أثرٌ على المفتي، نذكر من ذلك:

  • حسن الزي والهيئة من المفتي:

 وأثر هذا الأدب: أن ذلك أَهْيَبُ في حقه، وأجْمَلُ في شكله، وأدَلُّ على فضله وعقله، وأدْعَى لقبول قوله؛ فإن لحسن المظهر تأثيرًا على العامة.

  • اختيار الأفضل:

فينبغي على المستفتي أن يُحسن تخيُّر مفتيه؛ فيبحث عن العالم المتخصص في علوم الشريعة، المعلوم أهليتُه للفتوى.

وأثر مراعاة هذا الأدب: أن يمتاز أهل الفتيا المتخصصون عن الأدعياء الذين يقحمون أنفسهم في التصدي لفتيا الناس، فيُضِلُّون ولا يَهدون، ويُفسدون ولا يُصلحون، ويوقعون الناس في الحرج والمشقة، ويُشوشون على أهل الفُتيا المتخصصين، ويفسدون الناس عليهم، فإذا تحرى المستفتي المفتي المتخصص المعتمد من أولي الأمر كان ذلك أدْعَى إلى إهمال المُدَّعين وتعطيلهم، فإنهم من أعظم أسباب انتشار الجهل.

  • حفظ أدب المستفتي مع المفتي:

إن المفتي مُبلِّغٌ عن الله، والأدبُ مع المبلِّغ أدبٌ مع المبلَّغِ عنه سبحانه، وأثرُ هذا الأدب إقبالُ المفتي عليه بعلمه، والتبسُّط له، وبذل جهده في تعليمه وإفهامه، فسوء الأدب مع المفتي يؤدي إلى إعراضه عن المستفتي، فحفظ مقام الفتوى يقتضي إعراضَه عمن يسيء الأدب، ولأنَّ في إجابة فتواه إقرارًا له على سوء أدبه.

  • عدم مطالبة المفتي بالحجة والدليل:

وأثر مراعاة هذا الأدب: عدم إشغال المفتي عن مقصوده مما لا نفْعَ فيه للمستفتي، وشغل وقته عن إفتاء غيره، كما أنه منافٍ لإظهار التواضع والخضوع والأدب مع مفتيه، وكل هذا مندوب إليه، كما أنَّ الأصل في العلاقة بين المفتي والمستفتي هو الثقةُ فيما يصدر من المفتي والاطمئنان لصحته؛ لأن هذه الثقة هي التي تدفع المستفتي إلى التوجُّه للمفتي ابتداءً.

 

 

  • الاستفتاء فيما ينفع المستفتي:

فمن الآداب التي سبق الحديث عنها: عدم الإكثار من السؤال بغير فائدة، فلا يسأل عما لم يقع، أو عن صعاب المسائل مما لا يحتاج إليه، أو عن العلَّة في الأحكام التعبُّدية، إلى نحو ذلك.

وأثر مراعاة هذا الأدب: ألَّا يشغل وقت المفتي عما ينشئ الجدل، ولا فائدة منه إلا كثرة القيل والقال، وإضاعة وقت السائل والمسؤول، والمفتي وقتُه عزيزٌ، وفي الناس حاجة إليه، فلا ينبغي شغله إلا بما هو ضروري محتاج إليه، كما أن المستفتي مأمورٌ بترك كل ما يسبب له الشكَّ أو الارتياب في الدين والعمل.

  • البيان الدقيق للسؤال:

وأثر هذا الأدب: هو أَنَّ إجابة المفتي مترتبة على سؤال السائل؛ فإذا أخطأ في عرض السؤال، ومن ثَّم بالتأكيد أخطأ في الفتوى المتعلقة بنازلته؛ لذا كانت أهم مرحلة في مراحل الفتوى هي “مرحلة التصوير”.

فعلى المستفتي أن يحسن عرض مسألته، فيبعد عن الاختصار المخل بالسؤال، والاستطراد الممل الذي لا يفيد في الجواب، وأثر ذلك: أن جواب المفتي يكون على حسب ما فهمه من كلام المستفتي، قال الإمام العز بن عبد السلام: “المفتي أسير المستفتي” فبقدر دقة المستفتي في عرض مسألته، تكون دقةُ الفتوى ومناسبتها لمقتضى الحال، وبقدر بُعد المستفتي عن الدقة في عرض سؤاله، يكون بُعد المفتي عن الرشاد في فتواه.

  • صدق المستفتي في عرض واقعته:

فإن المفتي إنما يفتيه بما يظهر له، ولا اطلاع له على باطنه.

وأثر مراعاة هذا الأدب: إعانة المفتي على قصد الحق، والوصول إلى الصواب، فإن الوصول إلى حكم الله على الحقيقة غايته ومقصده، وحتى يكتب له أجر المجتهد المصيب؛ فعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)).

  • إمعان النظر في المسألة:

إذا كان الاستفتاء كتابة لا مشافهة، فعلى المفتي أن يمعن النظر في السؤال، وأن يتأمله كلمة كلمة، ولتكن عنايته بإمعان النظر في آخره آكد.

وأثر هذا الأدب: أن يخرج الجواب من المفتي دقيقًا، أقرب إلى الصواب، وأبعد عن السهو والخطأ، مما يتحقق معه صلاح دين المستفتي.

وإذا لم يفهم السؤال أصلًا، ولم يحضر صاحب الواقعة، فلا يجيب المفتي حتى يرسل له يطلب مزيد بيان وإيضاح، أو أن يحضر ليفتيه مشافهةً.

وأثر مراعاة هذا: أن يعظم قدر المفتي في عين مستفتيه، فيدرك عظم أمر الفتوى، حتى إن المفتي وهو في منزلته تلك لا يتحرَّج أن يطلب منه مزيد إيضاح لسؤاله، أو خطابه مشافهة حتى تكون فتواه عن بينة ويقين.

  • عدم استفتاء المفتي في كل حالة تغير خلقه أو تشغل قلبه، وتمنعه من التثبت والتأمل:

وذلك كحالة الغضب، أو المرض، أو التعب، أو الحزن، أو الضجر، إلى نحو ذلك.

وأثر مراعاة هذا الأدب: أن الفتوى من المفتي وهو على هذه الحال لا يمعن فيها النظر، فربَّما خرج الحكم يشوبه القصور والضعف، والبعد عن الحق، فيمنعه ذلك من التثبُّت والتأمُّل، وعدم استيفاء رأيه فيما ينظر ويفتي به، والواجب عليه أن يتوقَّف عن الإفتاء حتى يزول ما به، ويرجع إلى حال الاعتدال.

وفي الحلم والوقار: التحري والدقة في الفتوى باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وتنزيلها على الوقائع المطروحة عليه، بشكل متقنٍ وصحيحٍ مع التحري والحذر فيها، فيضع لكل قضية مطروحة عليه احتمالات مآلاتها، ويورد كل المعوقات والمعضلات التي تتعلق بتلك القضية، ويعمل على إيجاد الحلول المناسبة لذلك على نحو من التأني والهدوء، ولا شك أن الأحوال المنوه عنها سابقًا لا تعينه على ذلك.

على أنَّ توافر آداب الفتوى السابقة إضافة إلى الشروط المشترطة في المفتي تحقق للمفتي التميز الإفتائي؛ فتكون فتاواه: مستندةً إلى القرآن الكريم والسنة والنبوية وإجماع الفقهاء، متأنًّى فيها، معتمدةً على قواعد الشرع الحنيف ومقاصده، مراعيةً مصالح العباد وحوائجهم، مفصلة الجواب حين يكون التفصيل لازمًا، إلى نحو ذلك ما يحقق له التميز الإفتائي.

اترك تعليقاً