البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثالث: دور الفتوى في حماية الأسرة.

الفصل الثاني: الفتوى وتنظيم النسل.

123 views

مقدمة:

إن الشريعة الإسلامية مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، ومقصود الشرع من الخلق خمسة أمور، وهي أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة.

ولأن الإنجاب مطلب وجودي لاستمرار بقاء الجنس الإنساني رغَّب الشرع الشريف في النكاح والذرية؛ لما فيها من زينة ومنافع كما في قولِه تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:46]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالزواج وينهى عن التبتُّل نهيًا شديدًا([1])، ويقول: «تزوَّجوا الودود الولود، إني مكاثرٌ الأنبياء يوم القيامة»([2]).

والشرع وإن رغَّب العبادَ في الذرية لما فيها من زينة الحياة، إلا أنه لم يُوجِب الشرع على كل من تزوَّج أن ينجب أولادًا، لكنه حثَّ عمومَ المسلمين على النكاح والتكاثر، واكتفى بالترغيب في ذلك مع بيان أنها مسؤوليةٌ على كل من الوالدَيْن، ووجَّه إلى ضرورةِ حُسن التربية وتقويم النفس والأولاد، والبُعد بهم عن مواطنِ الهلاك، وحذَّر من إضاعة المرءِ حقَّ أولاده؛ قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة}] التحريم: 6[، وقال جل شأنه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»([3]).

فالمتأمل في النصوص الشرعيَّة التي تحث عموم الناس على الزواج والتكاثر يجد أنها تشترط لذلك الاستطاعة البدنية والمالية من أجل القيام بأعباء الأسرة ومسئولياتها، ومن ذلك إحسان تربية الأبناء خُلُقيًّا وبدنيًّا وثقافيًّا؛ مع توفُّر ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية، وإلا فهو مأمورٌ شرعًا بالصبر والاستعفاف حتى تتهيأ له الظروف وتتوفر الإمكانيات كما في قولِه تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]؛ بل أرشده صلى الله عليه وسلم بالمداومة على الصوم للتغلب على شهواته ودواعي طبيعته؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»([4]).

كما أن تنشئة الأولاد تنشئةً صالحةً والحفاظ على الأسرة مقصدٌ من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»([5])، وفي ظل التطور التقني الحديث وحركة التغيُّر السريعة بات من اللازم بناء الوعي والإدراك للتعامل السليم مع الواقع؛ خاصةً مع النشءِ الصغير، ومن هنا صار العبءُ على الأبوين والمسئولية في توجيه الأبناء وتربيتهم والعمل على توعيتهم متضاعفًا؛ ولا يُتصوَّرُ أن يتحقق هذا الغرض مع كثرة الأولاد، فإنها لا شك تحُولُ دونَ تحقيق مستوياتِ العناية ومراتب التربية المنشودة.

فالواجب على الآباء تربية أبنائهم من الناحية الخلقية والاجتماعية والدينية والبدنية وغيرها، والإنفاق عليهم من مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ وتعليمٍ وعلاجٍ وغير ذلك مما يحتاجون إليه سواء أكان ماديًّا أم معنويًّا.

وإذا غلب على ظن الزوجَيْنِ أنهما غيرُ قادرَيْنِ على هذه المسؤولية، أو قَرَّرا عدمَ الإنجاب لمصلحةٍ معينةٍ؛ كأن يكون في الإنجاب خطورة مثلًا على صحَّة الزوجة، أو خَافَا فسادَ الزمان على الذريَّة، اتفقا على عدم الإنجاب.

وقد اتبع الأزواج -على المستوى الفردي وعبر العصور- عدة وسائل وإجراءات من شأنها تباعُد مدد الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان حتى تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي، أو للمحافظة على صحة الأم وحياتها من أضرار كثرة الحمل وتكرار الولادة والرضاع، ومن ثَمَّ يتمكنان من رعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون مشقة، وهو ما يُعرَف في عصرنا بـ”تنظيم النسل” الذي صار من ضرورات هذا العصر، وفيما يلي بيان تنظيم النسل وموقف الفتوى منه، وذلك في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الإسلام وقضية تنظيم النسل.

المبحث الثاني: الإفتاء بمشروعية تنظيم النسل.

المبحث الثالث: مسوغات تنظيم النسل من وجهة نظر الفتوى.

 

المبحث الأول: الإسلام وقضية تنظيم النسل([6]):

إن تنظيم النسل من المصطلحات الحديثة، وإن كانت تُعبِّرُ عن مفهومٍ قديمٍ يُقصد به وضع إطار محددٍ للإنجاب بين الزوجين، بمعنى ألا يُترك أمر الإنجاب بينهما بلا تخطيطٍ، ويُقصَد به عمليًّا استخدامُ ما قد يتبعه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، وهو بذلك لا يشمل ما حرمته الشريعة من عمليات الإجهاض غير الضرورية؛ لأنها ليست منعًا للحمل من بدايته كما هو ظاهر، ومن هنا فمَن يُشبه تنظيم النسل بالإجهاض إنما يسعى لقلب الحقائق إضرارًا بهذه الأمة.

فلم يرِدْ في كتاب الله تعالى نصٌّ يُحرِّم منعَ الإنجاب أو تقليلَه، واتفاقهما على منع الإنجاب في هذه الحالة يُقاس على العزل، والعزل: قذف الزوج ماءَه خارجَ رحم زوجته لمنع التقائه بالبويضة حتى لا يحصل الحمل، ووجه القياس: اشتراك العزل والاتفاق على منع الإنجاب في المآل، وهو عدمُ حصول العلوق.

وقد اتفق جمهور العلماء على أنَّ العزلَ مباحٌ في حالة اتفاق الزوجين على ذلك؛ مستدِلِّينَ بالحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا». فَلَبِثَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ. فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا»([7])، وروى الشيخان عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: “كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ”، وعند مسلم: زَادَ إِسْحَاقُ، قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ، وفي رواية أخرى عنده: “فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا”([8]).

وروى البخاري في صحيحه عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدري رضي الله عنه قال: “خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ؟! فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهْيَ كَائِنَةٌ»([9])؛ قال الإمام ابن بطال: «قال الطحاوي: وقوله عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا»… إلى آخر الحديث، فيه دليلٌ أن العزلَ غير مكروه؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلامُ لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم يُنكِره عليهم، ولا نهاهم عنه، وقال: «مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ»([10]).

وقال الإمام الجصاص الحنفي: «وليس للرجل أن يعزل عن زوجته الحرَّة إلا بإذنها»([11])، وقال الإمام ابن رشد المالكي: «الذي عليه جمهورُ الصحابة إباحة العزل. وقد ذُكِر ذلك عند عمر بن الخطاب فقال بعضُ مَن عنده: إنَّ اليهودَ تزعمُ أنها الموءودة الصغرى. فقال علي بن أبي طالب: إنها لا تكون موءودةً حتى تمرَّ عليها التارات السبع… والذي عليه جمهور العلماء بالأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة إباحة العزل على حديث أبي سعيد الخدري»([12]).

وتناول الإسلام مفهومَ تنظيم النسل في إطار أشمل وأكمل من النظريات الحديثة؛ فهو لا يقصر التنظيم على كثرة الذرية وقلتها؛ بل يتوسع إلى تناوله في إطار أوضاع الأسرة المختلفة، وفي إطار المجتمع المسلم ككل؛ فمصالح الجماعة مقدمةٌ على مصالح الأفراد، ويشمل ذلك المسائل المتصلة بكثافة السكان، وتوزيعهم الجغرافي، والقوى العاملة، ومدى التوازن بين معدل السكان ومعدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بحيث لا تضعف الدولة أو تصير الكثرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غثاء كغثاء السيل»([13]).

ولقد أمر الإسلام بالتخطيط الجيد لكل أمر، سواء كان هذا الأمر صغيرا أو كبيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»؛ فالتخطيط في كل أمر بما فيه أمر تنظيم النسل هو السبيل الوحيد لبناء أمة واعية؛ بحيث يضع الزوجان خطةً للإنجاب والتربية وكل ما يرافق ذلك ويستتبعه بشكل يضعهما أمام تصور دقيقي وواقعي لعدد الأولاد المناسب لهما وطريقة تربيتهما بالشكل اللائق لأبناء الأمة التي نسعى لأن يفتخر بها النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.

إن لكلُّ زمان متغيراته التي تقتضي تدابير خاصة تناسب تلك المتغيرات، وإن أبرز المتغيرات المعاصرة التطور الكبير في المجالات الصحية والتوعوية والتعليمية، وهذا التغير وإن كان تغيًرا في صالح الإنسانية ومتوافقًا معها إلا أنه انعكس على مستويات الزيادة السكانية العالمية؛ فانخفضت معدلات الوفيات مقارنة بأعداد المواليد، ونتج عن ذلك تفاوت بين تلك الزيادة وبين كمية الموارد المتاحة، مما جعل من الحدِّ من معدلات الانفجار السكاني لتتناسب مع الموارد ضرورة ومطلب شرعي يجب وضعه في صدارة أولوياتنا للحفاظ على الموارد وضمان الاستفادة منها وتوزيعها بشكل عادل.

فمن هنا كان تنظيم النسلِ في الفكر الإسلامي حقٌّ إنسانيٌّ أساسيٌّ يلجَأ إليه من يحتاجُه، وذلك بقصد المحافظة على صحة الأم والطفل والأسرة والمجتمع والإنسانية، ورفع المستوى المعيشي والاجتماعي والتربوي للجميع.

المبحث الثاني: الإفتاء بمشروعية تنظيم النسل([14]):

نصت الفتاوى المنضبطة على أنه لا حَرَجَ في تنظيم النسل([15])، ولقد انحرف كثيرٌ من المتشددين في مسألة تنظيم النسل فرأوا أن قوة الأمة لا تتحقق إلا بالكثرة والعدد، وادعوا أن التنظيم سعيٌ إلى تقليل أعداد المسلمين، وهو فكرٌ ساذج سطحيٌّ، يرى الظاهر والقشور ويغض الطرف عن الأهداف والغايات؛ فالدين الإسلامي يزكي دائمًا الكيف دون الكم، قال تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} فلا عبرة هنا بزيادة العدد على رأي أصحاب هذا الفكر المنحرف، بل بما سيئول إليه الأمر، فالقلة القوية المخلصة المتماسكة أفضل من كثرةٍ كغثاء السيل.

إن تنظيم النسل لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر ولا يُعدُّ اعتراضًا ولا تدخلًا في قدر الله تعالى؛ لأن تنظيم النسل ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا، وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح، وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة ومع ذلك يأتي الحمل بأمر الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمال الصحابة لوسائل تنظيم النسل المتاحة في عصرهم وفق معارفهم الطبية؛ حيث سأله أحد الصحابة عن شيء من هذا -كما في الصحيح- فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى العَزْل؛ وهو: إخراج النطفة بعيدًا عن الرحم عند الشعور بنزولها أثناء المعاشرة الزوجية وذلك لمنع التقاء ماء الزوج بماء الزوجة، وقال صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا»([16])، وقال جابر رضي الله عنه: «كنَّا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل»([17])، وعن أبي سعيد الخدري أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمَل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موءودة الصغرى؛ قال: «كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه»([18])، وفيه دلالة على أنه لا تعارض بين الأخذ بالأسباب العادية وبين جريان الأقدار ووقوعها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وإنما تنظيم النسل مثله كالسعي في طلب الرزق؛ فإن الرزق مقدَّرٌ عند الله عز وجل؛ فالإنسان وغيره من المخلوقات مكفول رزقهم مسبقًا في علم الله، ولكن شُرع للإنسان الأخذ بالأسباب بالعمل طلبًا للرزق؛ بل جعل الشرع العملَ جزءًا من العبادة، وهو لا يتعارض مع الإيمان بأن الرزق مقضيٌّ به؛ فتحديد الله عز وجل للرزق ليس معناه منع السعي والعمل؛ فكذلك لا يتعارض تنظيم النسل مع الإيمان بأن ما قدَّر الله كان؛ لأنه من باب الأخذ بالأسباب.

فهذا التنظيم لا يتعارض مع قضاء الله وقدره، وإنما المحظور هو وقف قابلية الإنجاب نهائيًّا سواء للرجل أو المرأة بنحو الربط النهائي للرحم فهو ممنوع شرعًا إذا لم تَدْعُ الضرورة إلى ذلك؛ وذلك لما فيه من تعطيل الإنسال المؤدي إلى إهدار النسل وهي إحدى الضرورات الخمس التي جعلها الإسلام مقاصده الأساسية.

ولا يتعارض تنظيم النسل مع ما جاء في القرآن الكريم من النهي عن قتل الأولاد خشية الفقر؛ فهذا التشريع متعلق بقتل النفس أو قتل الجنين الذي له روحٌ مستقرة، ولا يمكن أن يكون حجةً أو أساسًا للقول بأن القرآن الكريم ينهى عن تنظيم النسل؛ لأن تنظيم النسل إنما هو تجنُّب الحمل قبل وقوعه وهو مشروع كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث العزل وغيرها.

كما أن تنظيم النسل لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تكثروا»؛ فالحديث فيه الحض على الزواج والنهي عن الرهبنة، والتباهي إنما يكون بالقوة والكيف الذي تتمتع به الذرية عن طريق توفير الرعاية والعناية الكافية.

ولو كانت الدعوة إلى تنظيم النسل من قبيل المؤامرة على الإسلام والمسلمين بقصد التقليل من عددهم لما أخذ به غير المسلمين؛ بل إنما يُقصَد به التحكُّم في معدل الزيادة السكانية كما هو الحال في البلاد المتقدمة اقتصاديًّا، وتعليل الأمور بنظرية المؤامرة يحرم المجتمع من خير كثير.

والحاصل أنه لا مانع شرعًا من تنظيم النسل في هذا العصر وفي ظل الظروف التي نعيشها أيًّا كان السبب؛ سواء لحاجة أو لأمر ضروري أو تحسيني؛ وذلك لأنه يحقق المصلحة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية بما يوفره من منافع وفوائد وبما يمنعه من مضار؛ حيث إن مقصود تنظيم النسل الأساسي إرادة الخير واليسر بالأسرة والمجتمع وتجنب العسر والمشقة عليها، وهو مطلب شرعي؛ قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكم العُسْرَ} [البقرة: 185].

المبحث الثالث: مسوغات تنظيم النسل من وجهة نظر الفتوى.

إن مقصد الشرع الحنيف من إباحة تنظيم النسل هو الوصول إلى ضمانٍ حقيقيٍّ لرعاية الأبناء رعايةً كاملةً شاملةً واستقرار الأسرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا؛ بحيث يستطيع الأبوان تنشئةَ أبنائهما تنشئةً سليمةً تعتمد الكيفَ والجودة لا مجرد الكم؛ ليقدما بذلك للمجتمع أفرادًا صالحين منتجين يساهمون في تعمير الأرض، وتحقُّق هذا الأمر لا يكون بطبيعة الحال مع كثرة النسل الذي يؤدي مع تزايد الأعباء إلى الإهمال في تربية الأبناء؛ فتصبح تلك الكثرة كما وصفها صلى الله عليه وسلم: «غثاء كغثاء السيل»([19]).

ومن مسوّغات تنظيم النسل في إطار الزوجين من وجهة نظر الفتوى المنضبطة:

أولًا: صحة الأسرة:

إن صحة الأم من أهم الأسباب التي تدعو إلى تنظيم النسل؛ فالأم هي صمام أمان الأسرة، وعلى عاتقها تقع أكبر المسئوليات في تربية أبنائها والاعتناء بهم بدنيًّا وخُلُقيًّا ونفسيًّا، ولكي تقوم الأم برعاية أبنائها رعاية متكاملة بدون مشقة لابد وأن تتمتع بالقوة البدنية والصحة الجسمية، والتي تتأثر من أضرار كثرة الحمل وتكرار الولادة والرضاع، وقد حثَّت تعاليم الإسلام على قوة البدن وصحة الجسم، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»([20]).

فمن مسوغات تنظيم النسل الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل أو الوضع، إذا عرف بتجربة أو إخبار طبيب ثقة، قال الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29].

ومن ذلك أيضًا: الخشية على الرضيع من حَمْل جديد، بناء على رأي طبيب مسلم متخصص، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإن الغيل([21]) يُدْرِك الفارس فيدعثِرُهُ عن فرسه»([22])، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يؤكد النهي إلى درجة التحريم فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرتُ أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضُرُّ أولادهم»([23])، وكأنه عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضرّ الأمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم، وهما أقوى دول الأرض حينذاك([24]).

إن القوة من الصفات التي امتدحها الإسلام، فالقوة هي المحرك والوقود الذي به تحقق الأمة رسالتها كاملةً على مراد الله سبحانه وتعالى منها، ومن أسباب القوة كثرة العدد عن صحة وعلم وعقل لا عن ضعف وجهل، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيباهي ويفاخر بنا الأمم يوم القيامة، وقد حضَّنَا على التناسل من أجل ذلك، ولكن هذا التناسل والذرية التي دعانا إليها صلى الله عليه وسلم هي الذرية القوية التي تستحق التفاخر لا الذرية الضعيفة؛ وكلما كثر الإنجاب زادت الأعباء وقل الاعتناء بالأولاد فضعفت قواهم؛ مما يناقض مقصود الشرع الشريف من بناء أمة قوية.

ثانيًا: كثرة الأولاد والخوف من الوقوع في محظور شرعي:

كتب الله سبحانه وتعالى على خلقه الاختبار والابتلاء في الحياة الدنيا، ومن ذلك الاختبار والابتلاء الأولاد والذرية، فإنهم من مواقع الاختبار والفتنة، وقد يفتن الإنسان بسبب كثرة الولد وعدم قدرته على الوفاء بنفقاتهم واحتياجاتهم، فينجرف إلى طريق الحرام، وقد أمر سبحانه وتعالى تجنب كل ما يؤدي إلى النار والهلاك فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]؛ ولذلك فإن تنظيم النسل يُجنب الإنسان الوقوعَ في ذلك الاختبار والبلاء الخطير، ويجلب لها السلامة في الدنيا وفي الآخرة.

لقد قال الله تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 46] فهم محل الفخر والراحة والمتعة، وكل ذلك من الزينة المتحققة من إنجاب الأولاد، إلا أنه سبحانه وتعالى بين أن الأقوال الطيبة والأعمال الصالحة هي التي تَبقى ثمارها للإنسان؛ فقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] ذلك أن الأولاد قد يكونون زينة، وقد يكونون فتنة، وإنجاب الأولاد متى صاحبته النية الطيبة والمقاصد الشريفة والعمل على تربيتهم وتأهيلهم وتوفير حاجاتهم كان ذلك عونًا للإنسان على أن يكون الأولاد قرة عين له.

وعليه فمن مسوغات تنظيم النسل غلبة الظن لأسباب جدية وقائمة بوقوع حرج دنيوي قد يُفضي به إلى حرج في دينه، فيقبل الحرام ويرتكب المحظور من أجل أطفاله، قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6].

ثالثًا: زيادة السكان من دواعي تنظيم النسل:

هناك أمور بطبيعة حالها ترتبطُ ببعضها ارتباطًا يجعل من أحدهما مقدمة أو سببًا للآخر وهذا الأمر ينطبق على قضية الزيادة السكانية فهي تعد من الأسباب التي تضر بالمجتمع ضررا بالغًا، بل تضر بالنسل نفسه؛ لأنه كلما زاد العدد قلت الرعاية والعناية، وانعكس ذلك على جودة الخدمات التي يتلقاها الطفل في مراحل تربيته ونموه وتعليمه، ومن ثم فإن الدعوة إلى تنظيم النسل لا سبب لها إلا وجود وتفاقم مشاكل اجتماعية وصحية وتربوية بسبب زيادة السكان.

الزيادة السكانية مشكلة عالمية:

ففي ظل التغيرات الجذرية التي يشهدها الواقع المعاصر والمشاق التي أدت إليها أنماط الحياة الآن بسبب زيادة أعداد الجنس البشري مع تطور العلم والطب واكتشاف الأدوية وتبني أنظمة الرعاية الصحية وانتشار الوعي، وبسبب قلة الموارد الطبيعية، وزيادة تكلفة التعليم والرعاية صار تنظيم النسل طريقًا لا محيد عنه؛ ووسيلة طبيةً لا يعارضها الشرعُ؛ بل يتفق معها؛ لأن الواقع يُخبِرُ بأن شُحَّ الموارد إنما هو لكثرة البشر، ولا سبيل لحل هذا التفاوت إلا بتنظيم النسل حتى نصل إلى التناسب بين موارد الأرض وعدد القاطنين عليها، ثم إن الواقع يُخبِرُ بأن التطور الهائل الذي لحق بالمعمورة من سرعة الاتصالات وكثرة المخترعات قد جعل العالم كلَّه قريةً واحدةً، وكما أتاح هذا التطور العلم والأدب والثقافة الهادفة أُتيح معه شرورٌ ومهالك، فكان الوعي والإدراك في التعامل السليم مع هذا الواقع مطلبًا ضروريًّا، وهذا؛ وإن كان ممكنًا مع الراشدين؛ إلَّا أنَّ الصغار قد لا يُحسنونَ ذلك التعامل، فيضيعون بين براثنِ الشُّرورِ، ويهلكون في منحنياتِها، ومن هنا صار العبءُ على الأبوين مضاعفًا في توجيه الأبناء وتربيتهم والعمل على توعيتهم في ظل تطور جامح يترنَّح الحيارى في ظلاله، ولهذا وذاك لا مناص من تنظيم النسل؛ إذ إنه كيف يُتصوَّرُ أن يقوم بأعباء هذه التربية مَنْ عنده كثير من الأبناء!.

 

 

([1]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 127).

([2]) تقدم تخريجه.

([3]) تقدم تخريجه.

([4]) تقدم تخريجه.

([5]) تقدم تخريجه.

([6]) ينظر: موقف الإسلام من تنظيم الأسرة (ص34).

([7]) أخرجه مسلم (1439).

([8]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5207)، ومسلم (1440).

([9]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2542)، ومسلم (1438).

([10]) شرح صحيح البخاري لابن بطال، مكتبة الرشد، (7/ 61).

([11]) شرح مختصر الطحاوي للجصاص، دار البشائر الإسلامية، (4/ 444).

([12]) البيان والتحصيل لابن رشد، دار الغرب الإسلامي، (18/ 151).

([13]( أخرجه أبو داود، رقم (4297) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

([14]) ينظر: موقف الإسلام من تنظيم الأسرة (ص109).

([15]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2) لسنة 2019م.

([16]) تقدم تخريجه.

([17]) تقدم تخريجه.

([18]) أخرجه أبو داود، رقم (2171).

([19]( تقدم تخريجه.

([20]( تقدم تخريجه.

([21]) الغيل: أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع.

([22]) أخرجه أبو داود (3881) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها.

([23]) أخرجه مسلم (1442) من حديث جدامة بنت وهب رضي الله عنها.

([24]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 133).

اترك تعليقاً