البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني صناعة الفتوى

الفصل الثالث: مفتي الضرورة والمؤسسات الإفتائية

95 views

يوضح هذا الفصل دور المؤسسات الإفتائية باعتبارها الموئل الآمن الذي يلجأ إليه جمهور المستفتين في صناعة وتأهيل المفتي المعاصر، مبينًا أهم المعايير والأسس التي من خلالها يمكن اختيار المفتي المتخصص في مجال من المجالات الإفتائية، كما أنه يعالج مشكلة قلة وجود “المفتي المجتهد” أو غيابه في بعض الأحيان ويطرح البدائل المناسبة لهذه المشكلة وفق رؤية تأصيلية علمية وعملية، وينتظم الحديث عن هذا الأمر وفق المباحث التالية:

  • المبحث الأول: صناعة وتأهيل المفتي المجتهد..ضرورة واقعية وفريضة شرعية.
  • المبحث الثاني: دور مؤسسات الفتوى في صناعة وتأهيل المفتي المجتهد.
  • المبحث الثالث: مفتي الضرورة والمؤسسات الإفتائية.

المبحث الأول

صناعة وتأهيل المفتي المجتهد..ضرورة واقعية وفريضة شرعية

إن التأهيل الاجتهادي للمفتين ضرورة شرعية وعصرية لا محيص عنها في واقع يشهد استطالة الناس على الفتوى وتصدر غير المتخصصين لها، مما يدعو إلى ضرورة التأهيل والتدريب، واستكمال فقاهة النفس في ضوء برنامج محكم ومسار راشد صحيح.

أولًا: دوافع التأهيل الاجتهادي.

إن التأهيل الاجتهادي ليس ترفًا فكريًّا أو مكملًا تحسينيًّا لمعارف المفتي، بل إنه قد أصبح من الضروريات التي يقوم عليها النسق الشرعي للفتوى، ومن ثم فلا بد أن تعضد هذا التأهيل مسوغات شرعية وواقعية، يمكن أن نجملها فيما يأتي:

  1. صياغة نموذج للمفتي العصري الجامع بين فقه النص وفقه الواقع، والعارف بشروط التنزيل على الوقائع، والبصير بخصوصيات زمنه ووقته، وكلما كثرت المستجدات وتعقدت تأكدت الدعوة إلى هذا الصنف من المفتين.
  2. مواجهة الشذوذ الفقهي الذي طغى على الفتوى المعاصرة، ودفع بها إلى مهاوي الاضطراب والخلل، ولا شك أن التأهيل الاجتهادي وسيلة وقائية تُحسم بها مادة الشذوذ وتدرأ آفاته مستقبلًا فتعين المصير إليه سدًّا للذرائع.
  3. مواجهة فوضى الإفتاء، وقطع الطريق على الأدعياء والدخلاء ممن يتجرءون على الفتوى ولم يستكملوا الشرائط الواجب توافرها في المفتين من العلم بلسان العرب وعلوم الشرع وتحقيق المناط وفقه الواقع؛ ومن ثم فإن التأهيل الاجتهادي وسيلة حاسمة لهذه الفوضى.
  4. إحكام الصلة بين وحي السماء وواقع الناس على الأرض، وهذا الأمر لا ينهض بأعبائه إلا المفتي الذي تهيأت له آلة الاجتهاد وخصال فقه النفس وفقه الواقع؛ وذلك لأن مرادات الوحي تصوغ الواقع على وزان هديها بفهم المجتهد وتنزيله النص على الواقع، وكلما كان الفهم قويمًا والتنزيل سليمًا كانت هيمنة المراد الإلهي على حياة الناس أحكم وأشمل.
  5. درء الشبهات عن مفتي العصر، الذي وسمه العلمانيون وغلاة الحداثة بالتخلف عن الركب الحضاري والجمود على الكتب الصفراء، ومما لا شك فيه أن هناك فريقًا آثر العكوف على كتب التراث لا يحيد عنها قيد أنملة مع أن واقعه يزخر بالمستجدات التي تقتضي تأصيلًا شرعيًّا من حملة الرأي والفقه، وقد يكون التأهيل الاجتهادي لهذا الفريق خير معين له على الخروج من عتمة عزلته والإصغاء إلى نبض الواقع وظروف العصر.

ثانيًا: مقومات التأهيل الاجتهادي.

إن القيام بعملية التأهيل الاجتهادي له ثلاثة مسالك:

١-تعديل مناهج تدريس الشريعة:

فإن النظم التعليمية المعاصرة المطبَّقة في الكليات الشرعية والمعاهد الدينية لا تولي التأهيل الاجتهادي حظًّا موفورًا من العناية، ومما لا شك فيه أن النظم التعليمية التي من شأنها إغفال صقل المواهب الاجتهادية لدى طالب العلم الشرعي لن تخرِّج إلا أجيالًا من المثقفين تعوزهم صناعة التحقيق وآلة النظر وخصال استبصار الواقع، ومن ثم فإنه من الضروري تشخيص مكامن الداء في مناهج تدريس الشريعة الإسلامية وكشف أسباب تعطيل البرنامج التأهيلي للمجتهدين.

ويمكن إجمال العلل التي تحول دون نضوج الملكات الاجتهادية لدى طالب العلم الشرعي فيما يأتي:

أ – الفصل بين فروع العلم الشرعي من عقيدة وفقه وأصول وحديث ولغة، وصرف العناية إلى فنٍّ بعينه بدافع التخصص العلمي الدقيق، وبرغم حُسن هذا المسلك الأكاديمي وأهميته في حذق صاحبه في صناعته وتخصصه إلا أن التأهيل الاجتهادي للطالب يستلزم مشاركةً في فروع العلم الشرعي، ولو بإحراز الرتبة الوسطى فيها، وهذا لا يمنع من الانقطاع لفرع مخصوص والتفوق فيه.

فإن الشريعة الإسلامية منظومة متكاملة، ولا بد للعالم المؤهل للاجتهاد أن ينهل من حياضها ما شاء الله له أن ينهل؛ فقد تنزل النازلة فيُحتاج في معرفة حكمها إلى الفقه والأصول والحديث واللغة هذا بالإضافة إلى فقه الواقع فيها.

ب- الجمود على مقررات العلوم الشرعية، وإضفاء صبغة التقديس على مادتها العلمية، مع أن نصيبًا منها يقبل المراجعة والتنقيح والإضافة بما يتواءم مع مستجدات العصر، ومصداق ذلك علم أصول الفقه فإنه ما زال يدرَّس بصورته المتوارثة التي تلقَّفتها أجيال عن أجيال إلى يومنا هذا، بينما منطق التجديد يملي علينا أن ننقح مادته حذفًا وإضافة وتصحيحًا، وذلك بتنقية المباحث الأصولية من الجدل المنطقي البارد الذي لا يزيد المادة إلا تشعبًا وإغراقًا في التكلف، وبالنظر في أدوات الاجتهاد ومؤهلات المجتهد بما يتواءم والمستجدات المتتابعة فإن نوعية الأداة الاجتهادية ترتبط بنوعية التحدي الفكري السائد في العصر، وقد سطَّر الأسلاف في باب التأهيل الاجتهادي ما يتمشى مع ظروف عصرهم وتحديات واقعهم، كما أنه من الضروري إثراء المادة الأصولية بمباحث جديدة تمليها النوازل المتجددة، وإذا كان من نقص لا بد من استدراكه في هذه المادة فهو التأصيل للاجتهاد الجماعي والاجتهاد المقاصدي والاجتهاد الانتقائي، فضلًا عن صياغة تصورات محكمة عن وسائل التأهيل الاجتهادي في ضوء مستجدات العصر.

ج- الفصام بين المعرفة الشرعية النصية والمعرفة الإنسانية الواقعية، الواقع في مناهج الكليات الشرعية، مما ترتب عليه إهمال فروع المعرفة الواقعية في النظم التعليمية المعنية بتدريس علوم الشريعة، مع أن إصدار حكم شرعي في نازلة يتوقف على معرفة فقه الواقع فيها؛ فإن فقه النص يرتبط بفقه الواقع ارتباط العلة بالمعلول في كل تأصيل اجتهادي سليم؛ ولذا فقد أصبح من الضرورة الملحة الدمج بين المعرفتين والتأهيل فيهما معًا.

ولقد أفرز الفصل بين المعرفتين الشرعية والواقعية صنفين من الفقهاء:

  • الأول: فقهاء نص لا دراية لهم بالتحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي يزخر بها العصر، ولا علم لهم بأساليب تفعيل الشرع وتنزيل النصوص على الواقع.
  • الثاني: فقهاء واقع يعوزهم الفهم لمعاني النصوص ومقاصدها، والدراية بتنزيل المراد الإلهي فيها على الوقائع والمستجدات، مع حظهم الوافر من المعرفة الإنسانية الواقعية.

٢-إنشاء مؤسسات التأهيل الاجتهادي:

إن التمكن في علوم الاجتهاد والحذق في صناعة الفتوى يحتاج إلى تفرغ ودربة ومران، ولا يتأتى ذلك إلا بإنشاء مؤسسات للتأهيل الاجتهادي تكون مهمتها تخريج العلماء المؤهلين للنظر في نوازل ومستجدات العصر، والنهوض بأعباء الإفتاء.

وفيما يلي نبين ملامح من النموذج التطبيقي المقترح في مؤسسات التأهيل الاجتهادي:

أ-البرنامج التعليمي:

فلا بد لمن يلج مؤسسات التأهيل الاجتهادي من التحصيل الدراسي الآتي:

أولًا: تحصيل الطالب لعلوم الاجتهاد؛ حتى يتمكن منها، وهي: علوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وفقه النوازل وعلوم الآلة.

ويحصل الحذق في هذه العلوم بإدمان النظر في المصادر الأصيلة والتلقي عن الشيوخ.

ثانيًا: تحصيل مبادئ العلوم الإنسانية كالاقتصاد والطب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وهي أدوات تعين في الغوص على فقه الواقع، وتفسير الظواهر الاجتماعية التي تحيط بالإنسان تفسيرًا صحيحًا، ولله در الإمام الشافعي الذي أشار إلى ارتباط فقه الفتوى بالمعرفة الواقعية فقال: «لا يحل لفقيه أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه»(1).

ثالثًا: التدرب على تحقيق المناطات وتنزيل الأحكام على الوقائع، من خلال مساقات تطبيقية تدرس فيها القضايا المعاصرة، وتبين طرائق تصورها وتكييفها واستنباط أحكامها.

رابعًا: التدرب على الفتوى الكتابية والشفهية.

خامسًا: دراسة نماذج من الفتاوى الشاذة، وبيان مواطن الخلل فيها في ضوء النقد السليم.

ب-اصطفاء الطلاب:

فيجب أن يُصطفى الطلاب المرشحون لولوج مؤسسات التأهيل الاجتهادي في صناعة الفتوى من ذوي النبوغ المتمتعين بأوصاف ثلاثة:

أولًا: الاستعداد الفطري، وهو يتأتى بوفور العقل وجودة القريحة وحدة الذكاء، وهذه الخصال هبة ربانية لا تُنال ببذل الجهد والاكتساب.

ثانيًا: استفراغ الجهد العقلي، واستحثاث الخاطر وإطالة التأمل في حل غوامض المسائل، مع الاستعانة بالخلوة والانقطاع إلى التفكر، والابتعاد عن الصوارف.

ثالثًا: التحلي بالإنصاف، وهذا يقتضي قطع النفس عن أسباب العناد والمكابرة والخصومة وشهوة حب الظهور.

ولا بد أن تُعقد للطلاب المرشحين مجالس مذاكرة واختبار من قِبَل لجان علمية مختارة، ويحسن أن يشهد لهم اثنان من العلماء الكبار الثقات.

ج-اصطفاء المدرسين:

فيجب أن يُصطفى المدرسون بمؤسسات التأهيل الاجتهادي من العلماء الثقات الجامعين بين شرائط المعرفة الشرعية وشرائط المعرفة الواقعية، أرباب منهج الوسطية في الفتوى، يقول الشاطبي): «من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله، المتحققين به على الكمال والتمام»(2).

٣-التأليف في مناهج التأهيل الاجتهادي للمفتين:

فإن المطالعة وسيلة فعالة ومهمة في مضمار التأهيل الاجتهادي للمفتين؛ إذ لا فائدة من تعليم لا ينمَّى بمطالعات خارجية موازية.

ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان أن يكون لأهل البحث والتنظير إسهام في التأصيل لمناهج تأهيل المفتين تأهيلًا اجتهاديًّا محكمًا، ومن الموضوعات الجديرة بالعناية:

  • أولًا: اقتراح النماذج المؤسسية للتأهيل الاجتهادي للمفتين.
  • ثانيًا: اقتراح البرامج التعليمية المفيدة في التأهيل الاجتهادي للمفتين.
  • ثالثًا: اقتراح أدوات اجتهادية جديدة في تأهيل المفتين تتواءم ومستجدات المناخ الفكري السائد في العصر.
  • رابعًا: اقتراح ضوابط تأهيل المفتين، ووسائل النهوض بفقههم الواقعي والتنزيلي.

1 الرسالة، الإمام الشافعي (ص٥١١).

2 الموافقات (١/٩١).

المبحث الثاني

التخصص الإفتائي والمؤسسات الإفتائية

أولًا: دور التخصص الإفتائي في النهوض بالمؤسسات الإفتائية:

تكمن أهمية مسألة “تجزؤ الاجتهاد” أو “تجزؤ الفتيا” في معالجة مشكلة تداخل التخصصات العلمية والمعرفية المختلفة مع علوم الإفتاء، وهنا يظهر “التخصص الإفتائي” كحل عملي لهذه المشكلة المعاصرة، فبتكوين مجموعات نوعية متخصصة في الإفتاء داخل المؤسسات الإفتائية، يمكننا بذلك تحقيق الكثير من المكاسب لصالح المؤسسة، والقضاء على الكثير من المشاكل والتي تؤثر على عمل وحركة المؤسسة أو تعوقها في بعض الأحيان، وتتضح أهمية ذلك الأمر في الآتي:

  1. من الصعوبة بمكان توفر المجتهد المطلق-ولا نقول باستحالته-الذي يستطيع الاجتهاد في كل أبواب العلم وسائر مسائله، فوجود ذلك المفتي أو المجتهد الذي يستطيع أن يجتهد في باب من أبواب العلم أو مسألة من مسائله يكون أكثر ملائمة وتناسبًا مع قلة وجود المجتهدين المطلقين.
  2. هذا التطور المذهل والمتجدد للعلوم والمعارف ألقى بظلاله على طبيعة عمل المؤسسات الإفتائية، من حيث طبيعة الأسئلة اليومية التي تتلقاها المؤسسة الإفتائية، حيث تتسم هذه الأسئلة بكونها جديدة ومعقدة ومركبة، كما أنها متداخلة ومتقاطعة مع بعض العلوم مما يجعلها تحتاج إلى كثير من البحث والدرس والنظر، وهذا بدوره لا يستطيع أن يقوم به مفتٍ غير محيط بمستجدات العلوم وتطورها، كتلك المسائل التي ترد دور الإفتاء تسأل عن معاملة مالية حديثة أو نازلة طبية جديدة أو ظاهرة اجتماعية طارئة أو غير ذلك من تلكم النوعية من المسائل المعاصرة المستجدة، والتي ربما لو تصدر لها مفت غير عالم بعلاقتها وتداخلها مع العلوم لأخرى لأدى هذا إلى إنفاق الكثير من الوقت والجهد حتى يستطيع تصور المسألة تصورًا شرعيًا صحيحًا، ثم القيام بتكييفها وملاءمتها مع ما يناسبها من الأبواب الفقهية ثم القيام ببقية مراحل العملية الإفتائية، نقول أن كل هذا يتعارض ومصلحة المؤسسة الإفتائية والمتصدر للفتوى والمستفتي.

حيث إن الهدف الرئيس للمؤسسة الإفتائية هو محاولة استيعاب أكبر قدر من أسئلة المستفتين قدر الإمكان، وبأسرع وقت ممكن ومتاح، وتلك النوعية من الأسئلة المركبة و المتداخلة، إذا تصدر لها داخل المؤسسة من هم غير العالمين بتداخلاتها وانصرفوا لها واشتغلوا بها لأدى ذلك إلى تراكم الأسئلة وعدم القدرة على استيعاب الكثير من الأسئلة التي ترد المؤسسة لاستهلاكهم في هذه النوعية من الأسئلة، بل وربما أثر ذلك في جودة الفتوى، كما أن هذا يعود بالسلب على المستفتي من حيث تأخير الإجابة عليه وربما فاتت بذلك مصلحة لها، أو أدى ذلك إلى انصرافه إلى غير المتخصصين، أما متصدر الفتوى غير المحيط فربما لاقى عنتًا ومشقة كبيرين في تصور المسألة ودراستها، وربما وجدنا بعد فترة كبيرة من البحث والدرس أنه لم يحسن فهمها على وجهها أو تصورها أو غير ذلك من خلل في العملية الإفتائية مع ما يلاقيه من بذل وقت وجهد.

إذًا فالتخصص الإفتائي أضحى أمرًا مهمًّا وضرورة كبيرة للمؤسسات الإفتائية لتجنب هذه المشكلات والحد من آثارها للقيام بعملها والاضطلاع بمهامها على الوجه الأكمل.

  1. وجود تلك المجموعات التخصصية الإفتائية داخل المؤسسة يساعد كثيرًا في أمرين:

الأول: سرعة الإجابة على الأسئلة التخصصية التي ترد إلى المؤسسة.

الثاني: حسن فهم وتصور هذه النوعية من الأسئلة.

  1. التخصص الإفتائي أيضًا كالتخصص العلمي فهو يساعد المتخصص على إدراكه لكافة الدقائق المتعلقة بتخصصه ودراسته فيكون ملمًا ومحيطًا بشتى جوانب المسألة المتعلقة بتخصصه.
  2. بما أن طبيعة عصرنا تحتاج إلى مزيد اجتهاد وتجديد يتلاءم مع التطورات والمستجدات، فإن التخصص الإفتائي يأتي دوره كعامل مهم ومؤثر في هذه العملية التجديدية، فربما يؤدي هذا إلى الخروج بنتائج أو نظريات جديدة متماسكة.
  3. يعتبر التخصص الإفتائي استغلالًا للطاقات واستثمارًا للمواهب والمهارات، وذلك بتوظيف الكفاءات بوضعها في المكان الملائم لها والمتناسب معها، فمثلًا الذي يجيد الحساب والرياضة يتخصص ويتفرغ للمواريث والتركات، والذي عنده ميول للتجارة ومعاملات الناس يكون الأنسب له المعاملات، ومن درس مقدمات الطب يكون في المجموعة الإفتائية المتعلقة بالنوازل الطبية وهكذا، فكل هذا يؤدي في نهاية الأمر إلى النجاح والإبداع والحصول على أفضل النتائج المرجوة داخل المؤسسة الإفتائية.

تقسيم التخصص الإفتائي حسب الأبواب الفقهية:

التخصص الإفتائي بحسب الأبواب الفقهية معناه أن يُختار للمتصدر للفتوى مجالٌ من المجالات الفقهية القديمة أو المعاصرة ليكون متصدرًا للإفتاء فيه لا غير، وتظهر فائدة ذلك أتم ظهور في تخصيص متصدر للفتوى في المجالات المعاصرة كالاقتصاد أو الطب أو السياسة والقانون وغيرها، وليس المطلوب من المتصدر للفتوى في هذه المجالات الإحاطة بكل دقائق هذه العلوم فإن ذلك لا يتأتى حتى للمختص فيها، إلا أن دأب المفتي الاجتهاد، فهو في بحث دائم كلما استجدت له قضايا، وذلك يتأتي له من خلال تخصصه الذي يوفر له فهم المسائل ضمن إطارها، وسهولة معالجتها بالمناهج والأدوات العلمية التي حصَّلها أثناء تخصصه؛ فنتحصل على مفتٍ اقتصادي ومفتٍ حقوقي ومفتٍ سياسي ومفت طبي وهكذا.

ويمكن تقسيم المتخصصين للفتوى بحسب الأبواب الفقهية طبقًا لما يلي:

  1. متخصص في العبادات.
  2. متخصص في المعاملات.
  3. متخصص في السياسة الشرعية.
  4. متخصص في ا لعقائد والرد على الشبهات.
  5. متخصص في القضايا الطبية.
  6. متخصص في الإفتاء في قضايا الأقليات.
  7. متخصص في الجنايات والعقوبات.
  8. متخصص في الأحوال الشخصية.
  9. متخصص في النوازل والمستجدات.

ثانيًا: المهارات وأثرها في تحديد التخصص الإفتائي.

من أهم ما تتميز به المؤسسات الناجحة هو معرفة ما يتميز به الأفراد المنتمون لهذه المؤسسة من مواهب ومهارات وإمكانات، والقدرة على توظيف هذه المهارات واستغلال واستثمار هذه المواهب والإمكانات ووضعها في المكان المناسب واللائق بها، بل تعمل المؤسسة الناجحة على تنمية هذه المهارات وتطوير تلك القدرات، مما يعود بأعظم النفع على المؤسسة وأفرادها، فيكون العاملون فيها محبين لعملهم متقنين له، مبدعين في أدائه، مما يسهم في نجاح المؤسسة في أداء رسالتها والقيام بمهمتها وواجبها على أحسن وجه.

وهذا ما كان يفعله رسول الله  مع أصحابه، من حسن توظيف مهاراتهم، واستغلال قدراتهم وإمكاناتهم، فأبدع كل واحد في مجاله، فكما رأينا في الحديث-الذي ذكرناه سابقًا- تخصيصه لمعاذ بفقه الحلال والحرام، والقرآن لِأُبَي بن كعب، والفرائض لزيد بن ثابت، ويبدو أن سيدنا زيدًا رضي الله عنه كان متعدد المواهب، فلما احتاج منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية تعلمها في سبعة عشر يومًا، وهذا إن دل على شيء فيدل على مدى علمه  الجيد بقدرات أصحابه وملكاتهم، حتى إن زيدًا حذق اللغة وأتقنها في مدة قصيرة، روى الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله : “أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب” قال: قلت: لا، قال: “فتعلمها” فتعلمتها في سبعة عشر يومًا(1).

والذي نريد أن نخلص إليه ونوضحه هو أن المواهب مختلفة والملكات متنوعة والقدرات متباينة، فالذي يجيد علمًا لا يجيد آخر، و الماهر في فن قد لا يكون ماهرًا في فن آخر، بل قد يبرع المرء في جزئية معينة من العلم دون سائر أجزاء هذا العلم، وهنا تبرز فكرة التخصص والتي تحدثنا عنها واستطردنا فيها بما لا داعي لإعادته هنا، غاية ما نريد توضيحه أن الإنسان قد يكون ماهرًا في علم المعقول ولا يجيد المنقول، أو يجيد الحديث ويصعب الفقه عليه، أو يكون عالـمًا في القرآن ولا علاقة له بالمواريث، وهكذا…، فإن الإمام السيوطي العالم الكبير الذي تفنن في العلوم كان لا يجيد علم الحساب حتى أنه يقول عن نفسه في “حسن المحاضرة”: «أما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني؛ وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلًا أحمله»(2).

وجلال الدين المحلي صاحب التصانيف النافعة المشهورة التي تدل على ذكائه وبراعته، والذي كان يقول عن نفسه: «إن ذهني لا يقبل الخطأ» و «إن لي ذهنًا يثقب الماس»، على الرغم من ذلك كانت ملكة الحفظ عنده ضعيفة، فروي أنه حفظ كراسة من العلم ذات مرة فامتلأ بدنه حرارة وحُمَّ.

وسنحاول في المبحثين القادمين بيان أثر المهارات الشخصية في تحديد المجال أو التخصص الإفتائي لدى متصدري الفتوى، بحيث يسلك كل فرد منهم المجال الإفتائي في التخصص المناسب له، وسنعالج هذه القضية بطرح مقترح يشمل وضع المعايير والضوابط المناسبة، والتي بناء عليها يتم اختيار هذا المتدرب المرشح للتصدر للفتوى.

ومن المهم أن نشير هنا إلى أنه يمكن لكل مؤسسة أن تقوم بتقسيم مجالات التخصص الإفتائي لديها بما يتلاءم مع إمكاناتها وطبيعة عملها ومتطلبات المجتمع والبيئة التي تعمل فيها، فكل مجتمع له من الخصائص والطباع والاحتياجات ما يميزه عن المجتمعات الأخرى، وهذا يؤثر بدوره على أولويات عمل المؤسسة الإفتائية، فطبيعة المشكلات وحجمها يختلف من مجتمع لآخر، وهذا ينعكس بدوره على طبيعة التخصصات الإفتائية داخل المؤسسة، فهناك مجتمع يكثر فيه الطلاق والمشاكل الزوجية فتكثر فيه الأسئلة عن الطلاق وما يتعلق به من عِدَّةٍ ورجعة وغير ذلك، بخلاف مجتمع آخر تجاري مثلًا فتكثر فيه الأسئلة المتعلقة بالمعاملات المالية والاقتصادية، وهكذا؛ فالاحتياجات مختلفة والأولويات متباينة، والمتطلبات متنوعة.

ثالثًا: معايير وأسس اختيار متصدري الفتوى في المجالات الإفتائية المختلفة.

من المهم جدًّا وجود معايير وضوابط واضحة يمكن من خلالها معرفة المهارات المختلفة ابتداء، ثم القيام بعد ذلك كمرحلة ثانية بتوظيفها توظيفًا جيدًا ووضعها في مجالها التخصصي المناسب لها لدى المتدربين على التصدر للفتوى، ومن أهم هذه الأسس والمعايير ما يلي:

أ- طبيعة الدراسة النظامية للمرحلة ما قبل الجامعية:

فطبيعة تلك المواد المدروسة في هذه الفترة قد تكون مؤشرًا على الاختيارات والمهارات الخاصة لمتصدر الفتوى، فيمكن معرفة طبيعة دراسته في هذه الفترة، حيث إنه في هذه المرحلة –قبل الجامعية- تكون المناهج الدراسية-في الأعم الأغلب- منقسمة إلى مواد إجبارية يشترك فيها معظم الطلاب، ومواد أخرى اختيارية يُترك فيها للطالب حرية الاختيار بما يتوافق مع اختياراته العلمية ومهاراته الدراسية، وغالبًا ما تشمل تلك المقررات الدراسية الاختيارية مجموعتين:

  1. مجموعة العلوم التطبيقية والرياضية: كالفيزياء والكيمياء والأحياء والجبر والمقابلة والاستاتيكا والديناميكا إلخ.
  2. مجموعة العلوم الاجتماعية والأدبية: كعلم النفس والإحصاء والاقتصاد إلخ.

وقد تكون معرفة اختياراته الدراسية والوقوف على تقييماته في تلك المرحلة مؤشرًا على طبيعة ميولاته ومهاراته الشخصية.

ب- المرحلة الجامعية:

وتعتبر تلك المرحلة من أهم المعايير المحددة لطبيعة المجال التخصصي الإفتائي لدى المتدرب على الفتوى، حيث بالإضافة إلى الدراسات الشرعية والفقهية واللغوية التي يتلقاها في كليته هناك بعض الكليات التي تقرر بعض المواد العلمية الخاصة، والتي تزيد من مهارة الطالب وكفاءته واطلاعه ومعرفته ببعض علوم الواقع المعاصرة والمختلفة مما يعزز من بناء تكوينه العلمي والمعرفي، فبعضها يقوم بتدريس مقدمات ومداخل في علوم القانون، أو العلوم الإنسانية المختلفة كالاقتصاد أو علم النفس، أو علوم رياضية كالفلك مثلًا، بل وتقوم بعض الجامعات بتقرير دراسة الإفتاء كعلم ومادة مستقلة بذاتها، وهو ما ندعو الكليات الشرعية أن تحذو حذوه ونشجعها على ذلك؛ لما في هذا من أثر كبير في المساهمة في التأهيل العلمي لمتصدري الفتوى.

ج- مرحلة ما بعد الجامعة:

وهي مرحلة مابعد البكالوريوس أو الليسانس الجامعي، وتسمى أيضًا بالدراسات العليا، وتشمل الدبلومات المختلفة والتخصصات العلمية المتنوعة، وتصلح هذه المرحلة كمعيار دقيق وذي أهمية في تقييم المتدرب على الإفتاء، ومعرفة المساق التخصصي الإفتائي المتناسب مع مواهبه ومهاراته، وذلك بمعرفة طبيعة الدبلومة الحاصل عليها أو ماهية درجة التخصص العلمي الذي برع فيه.

د- المقابلة الشفوية:

نأتي إلى المرحلة الرابعة والأخيرة في تلك الأسس والمعايير المحددة للمجال الإفتائي للمتدرب على الفتوى، وهي المقابلة الشفوية، وعبئها ومسئوليتها تقع على المؤسسة الإفتائية، حيث تقوم المؤسسة الإفتائية بعقد مقابلة شخصية شفوية للمترشحين للتدرب على الإفتاء لديها، والهدف من هذه المقابلة هو الآتي:

  1. مناقشة المترشح في مؤهلاته العلمية المقدمة، والاطلاع على مدى مطابقة المؤهلات النظرية مع الواقع الفعلي حال التقدم.
  2. الاطلاع على الخبرات المهارية العملية لدى المترشح، وذلك بمعرفة طبيعة عمله السابقة، وما مارسه من بعض الأعمال، و بعض التجارب الحياتية، والمقصود من كل هذا هو المساعدة على تحديد المجال التخصصي الأكثر ملاءمة له، فمثلًا الذي مارس التجارة أو الحرف في بعض مراحل حياته، يكون أكثر مناسبة للتخصص الإفتائي المتعلق بالمعاملات المالية، لمخالطته الناس ومعرفته بصور معاملاتهم بطريقة أقرب، وهكذا.
  3. معرفة مدى ملاءمة المترشح لمنهج المؤسسة ومناسبته لطريقة عملها، وتأهله للعمل لديها.
  4. التقييم للسمت الظاهري والمظهر الطيب للمترشح للتدرب على الفتوى؛ لما يمثله ذلك من أهمية في صفات المفتي -كما ذكرناه سابقًا- وعملية الإفتاء.
  5. الوقوف على قدرات الحوار والمناقشة لديه، مع توفر مهارات التواصل الفعال مع من حوله، وذلك عبر الحديث معه ومناقشته في أحاديث ومواضيع مختلفة ومتنوعة.

ومن المهم الإشارة إلى أنه ينبغي على المؤسسة الإفتائية أن تقوم بتوفير مجموعة من الأفراد الموضوعيين المتجردين المميزين لديها، والذين يتمتعون بقدرة على تقييم الأشخاص وقياس مهاراتهم ومعرفة مدى صلاحيتهم للعمل في تلك المؤسسة الإفتائية.

نموذج مقترح لتقييم المترشح للعمل في المؤسسة الإفتائية
اسم المترشح
رقم الهوية الشخصية
الحالة الاجتماعية
العنوان
المؤهل العلمي
تاريخ المقابلة

 

مجـــــــــــــال التقــــــــــــيـيمممتازجيد جدًّاجيدمقبولضعيف
المؤهلات العلمية
الخبرات العملية
الدورات التخصصية
المهارات الشخصية
المظهر العامر
توافق أفكاره مع منهج المؤسسة
التقــــــــــــــــــــــــــــييم النهائي

 

القرار والتوصيات
قرار اللجنة بالصلاحية للعمل في المؤسسة(يصلح أو لايصلح)
المجال التخصصي الإفتائي المناسب له
ملاحظات
أسماء أعضاء اللجنة

١. …………………………………………………………………..

٢. …………………………………………………………………..

٣. …………………………………………………………………..

التوقيع

1 مسند أحمد، رقم (٢١٥٨٧).

2 حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، السيوطي (١/ ٣٣٩).

المبحث الثالث

مفتي الضرورة والمؤسسات الإفتائية

أولاً: الاجتهاد ومفتي الضرورة.

الأصل في اختيار من يتصدر للقيام بمهمة الإفتاء أن يكون قد بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق. يقول الكمال بن الهمام: «لا يفتي إلا المجتهد، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي»(1).

وعلى الرغم من اعتبار الاجتهاد شرطًا في المفتي إلا أن الحنفية المتأخرين نصوا على اعتباره شرط أولوية لا شرط صحة، ولذا فيجوز عندهم تولية المقلد منصب الإفتاء لتعذر الاجتهاد في الأزمنة المتأخرة، لكن إذا وُجد المجتهد كان هو الأولى.

يقول الإمام ابن القيم عن جواز الفتوى بالتقليد: «والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل»(2).

مفتي الضرورة:

هو ذلك المفتي الذي لم تتوافر فيه شروط المفتي وعلى رأسها الاجتهاد، فهو مقلد، واقتضت الضرورة أن يكون متصدرًا للفتوى لسبب أو لآخر.

النشأة:

تناول العلماء هذا المصطلح في مؤلفاتهم عند حديثهم عن حكم (تقليد المقلد)، وذلك إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

يقول ابن حمدان: «فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم؛ لأنه لا يعرف الصواب وضده، فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر؛ لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده»، وقال بعد أن ذكر آراء العلماء في تقليد المقلد: «فعلى هذا: من عددناه من أصناف المفتين من المقلدين ليس على الحقيقة من المفتين، ولكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم، فعدوا معهم، سبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: “مذهب أحمد كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا”، أو نحو ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه: إن كان ذلك منه اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال جاز»(3).

وقد علل ابن الصلاح قول المانعين لتقليد المقلد بــــــأن: “من قال: (لا يجوز أن يفتي بذلك)، معناه أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه ويحكيه عن إمامه الذي قلده، فعلى هذا من عددناه في أصناف المفتين من المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين وأدوا عنهم فعدوا معهم، وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه إن كان ذلك “منه” اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال فلا بأس(4).

إذًا فــالأصل أن يتولى منصب الإفتاء المستجمعون لشروط الإفتاء، فإن تعذر ذلك لسبب أو لآخر فلا بأس بالاستعانة بــ(مفتي الضرورة) حينذاك.

أسباب الاستعانة بـ(مفتي الضرورة):

  1. عدم توافر المفتين المجتهدين أو قلتهم.
  2. أنه قد يوجد المفتون المجتهدون ولكن يتعذر الوصول إليهم والتواصل معهم.
  3. أن اتساع العمران وانتشار البشر في أماكن متفرقة على سطح الأرض والوصول إلى أماكن لم يصلها الإنسان قبل ذلك، أفرز واقعًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل متمثلًا في وجود أقليات مسلمة في أطراف متنائية، وفي مثل هذه الظروف يكون من الصعب وجود الذين تتوفر فيهم شروط الإفتاء على الهيئة المذكورة.
  4. كثرة الأسئلة الإفتائية بحد يفوق قدرة استيعاب المفتين المجتهدين –على فرض وجودهم-مما يلجئ للاستعانة بـ(مفتي الضرورة).
  5. أن قصر الفتوى على المفتين المجتهدين فقط يؤدي إلى خلل عظيم في حفظ الدين الذي هو أحد المقاصد الخمسة الضرورية التي جاءت بها الشريعة السماوية؛ فحفظ الدين يكون ببيانه للناس حتى يتعلموه ويعملوا به ويبلغوه لمن بعدهم، ومهمة المفتي الأساسية هي بيان حقائق الدين وأحكامه للناس ليعرفوها ويلتزموا بتطبيقها فتنصلح بذلك حياتهم الدنيوية والأخروية؛ فلو خلا منصب الإفتاء من المفتين ترتب على ذلك الإخلال بمهمة بيان الدين مما يؤدي إلى الإخلال بتطبيقه تطبيقًا صحيحًا فيؤدي إلى جهل الناس بالدين وترك العمل به.

ثانيًا: مفتي الضرورة والمؤسسات الإفتائية.

تتمتع المؤسسات والهيئات الإفتائية المختلفة بقدر كبير من المصداقية والثقة لدى جمهور الأمة من المستفتين الحريصين على معرفة الأحكام الشرعية؛ وذلك لما تتصف به هذه المؤسسات والهيئات من التخصصية والوسطية ومعرفتها الدقيقة بأحوال الناس وظروفهم وعاداتهم ومقتضيات العصر، فتكون فتاواها معبرة عن التعاليم الإسلامية الصحيحة بدون إفراط أو تفريط، وهذا الرصيد من الثقة أدى إلى كثرة المستفتين ولجوئهم كثيرًا إلى دور الإفتاء، فأصبح هناك عدد هائل من الأسئلة يرد إلى تلك المؤسسات عبر الوسائل الإفتائية المختلفة، سواء الهاتفية أو الحضور إلى الدار (المشافهة)، أو عبر وسائل التقنية الحديثة كالبريد الإلكتروني والفيس بوك وغير ذلك، وهذا الكم الهائل من الأسئلة والذي يصل في بعض المؤسسات لأكثر من ألف سؤال يوميًّا يصعب معه توفير المفتين الذين تنطبق عليهم شروط المفتين المذكورة سابقًا، والتي على رأسها الاجتهاد، وهنا يظهر دور (مفتي الضرورة) كحل لهذه المشكلة وعلاج لهذه الأزمة؛ وذلك وفقًا للمعطيات والتراتيب الآتية:

  1. إذا نظرنا إلى نوعية الأسئلة الواردة إلى دور الإفتاء وجدناها كالآتي:
    • أولًا: أسئلة مكررة تطرح يوميًّا لا تحتاج إلى مزيد اجتهاد وبحث، وهذا يشمل الكثير من مسائل العبادات وبعض المعاملات.
    • كالسؤال عن حكم اللحية، وعن النقاب، وقضاء الصلوات وإخراج الزكوات، وغير ذلك.
    • ثانيًا: أسئلة تكون مكررة، ولكنها ليست على نفس الدرجة السابقة من التكرار، بل بعضها قد يحتاج إلى تفتيش وبحث قليلين، كالأسئلة الخاصة بالحج مثلًا.
    • ثالثًا: أسئلة ليست مكررة، بل جديدة وتحتاج إلى تريث ونظر، وإلى مزيد بحث واجتهاد، كأسئلة النوازل والمستجدات والمعاملات الحديثة.
  2. من الطبيعي أن المؤسسات والهيئات الإفتائية تتشكل من أكثر من مستوى إفتائي، فهناك المستوى الأول ثم المستوى الإفتائي الأعلى، وهكذا حتى نصل إلى (المفتي،) والذي يمثل رأس المؤسسة الإفتائية ويكون على قمتها.

مما سبق يظهر أن هناك مساحة مقبولة يمكن أن يشغلها (مفتي الضرورة)، وهي من حيث نوعية الأسئلة، تلك الأسئلة المكررة يوميًّا أو التي تحتاج إلى قليل من البحث، ويكون (مفتي الضرورة) في المستوى الإفتائي الأول، وبذلك تستطيع دور الإفتاء أن تقوم بدورها في الإجابة عن هذا القدر الهائل من الأسئلة الواردة، بحيث لا يكون هناك تأخير في الإجابة عن المستفتين، وتزيد القدرة الاستيعابية لهذه الأسئلة، مما يساهم في جودة الفتوى، والأهم من ذلك تفرغ المتصدرين للفتوى ممن استجمعوا شروط الإفتاء بأقسامهم ودرجاتهم للمسائل غير النمطية أو المكررة، أو تلك المسائل والنوازل المعاصرة والتي تحتاج إلى مزيد جهد وفكر ونظر.

مقترح بأهم الشروط التي ينبغي توافرها في مفتي الضرورة:

وهناك مقترح للمؤسسات والهيئات الإفتائية بأهم الشروط التي ينبغي توافرها في (مفتي الضرورة)؛ طبقًا للنظم التعليمية الحديثة وبما يتلاءم مع مقتضيات الواقع:

أ) أن يكون من خريجي الكليات الشرعية المعنية بتدريس علوم الشريعة كالفقه والأصول والقواعد الفقهية، وغير ذلك من العلوم التي يحتاج المتصدر للفتوى أن يكون ملمًّا بطرف منها.

ب) أن يكون حاصلًا على دورة تأهيلية في مهارات (الفتوى) من جانبين:

الجانب الأول: وهو الجانب النظري: ويقوم فيه (المتدرب على الفتوى) بدراسة متأنية تحليلية لفتاوى المؤسسة حتي يحصل له تشرب بفهم منهجها، ومعتمدات المؤسسة، والمنهج العام، والأدلة التي استندت عليها المؤسسة في تقرير الحكم الشرعي، وفي هذه المرحلة يمكن للمتدرب أن يرجع إلى السادة المفتين في مناقشة ما يشكل عليه من فهم مسألة، أو عدم وضوح مدرك فقهي لديه، أو غير ذلك، لكن من الأهمية بمكان إجراء مثل هذه المناقشات والمحاورات بين المتدرب على الفتوى والمتصدرين للإفتاء؛ لأنها تصقل المتدرب على الفتوى ويتشكل بها ذهنه بما يتلاءم مع طبيعة المؤسسة.

الجانب الثاني: وهو الجانب التطبيقي: ونعني به ملازمة المتدرب على الفتوى للسادة المفتين -حال قيامهم بالإفتاء- مدة معينة من الزمن يحدث له فيها دربة وتمرس على الفتوى ومهاراتها، فينظر كيف يتعامل المفتي مع المستفتي، وكيف يستخلص السؤال منه، ويقوم بتصور الفتوى وتكييفها والإجابة عليها.

وهذا الشق العملي التدريبي من أهم المؤثرات في (صناعة المفتي)، فتنقل فيها الخبرات ومهارات الممارسة تلقائيًّا من المفتين إلى المتدربين على الفتوى.

وينبغي أن يكون هذا البرنامج التدريبي بشقيه النظري والعملي وفق خطة محددة التوقيت، وهي في كل الأحوال لن تقل عن عام واحد، وقد تزيد حتى تصل إلى عامين أو أكثر حسب رؤية المؤسسة ومتطلباتها، ولا يحصل المتدرب على إجازة الإفتاء إلا بعد إخضاعه لعملية تقييم شامل للوقوف على مدى تأهله وصلاحيته للتصدر للفتوى.

ج) أن يتمتع بالقدرة الفعالة على التواصل مع جمهور المستفتين بفهم أسئلتهم وحسن تصورها، واستيعابهم.

د) أن يكون حسن السير والسريرة، ويعرف هذا من سلوكياته وملازمته للطاعات وبُعْده عن الشبهات.

1 فتح القدير، الكمال بن الهمام (٧/٢٥٦).

2 إعلام الموقعين عن رب العالمين (١/٣٦، ٣٧).

3 صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص٢٤، ٢٥).

4 أدب المفتي والمستفتي (ص١٠٣).

اترك تعليقاً