البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أصول المذهب الحنفي وسماته

الفقه الافتراضي (التقديري)

108 views

إن الغالب على منهج الفقهاء هو النظرُ في حكم المسألة بعد وقوعها، وبيان أحكام الحوادث عند نزولها، إلا أنَّ علماء المذهب الحنفي -وبجانب اشتغالهم بذلك النمط الغالب على الفقهاء- قد اشتغلوا أيضًا بافتراض المسائل وتقديرها قبل وقوعها، بحيث يبحثون لها الأوفق والأنسب من الأحكام. وقد ساهم في ذلك كثرة الفتن والنوازل التي حدثت في أرض العراق، مما جعل علماء وفقهاء الحنفية يتحسسون خطاهم ويفترضون الوقائع والنوازل؛ ليكون ذلك عونًا لهم ولمن يأتي بعدهم عند وقوع البلاء.

***** حكم الفقه الافتراضي:

قد اختلف أهل العلم في حكم هذا النوع من الفقه، فكرهه بعضهم لورود النهي عن كثرة المسائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم([1])، وكذا ورود الآثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في كراهية ذلك، وقد عقد الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه «الفقيه والمتفقه» بابًا في «القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها» أورد فيه عدة آثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في كراهية ذلك([2]).

إلا أن الجمهور قد أجاز هذا النوع من الفقه، ولا سيما إذا كان الغرض منه التعليم أو الاستعداد للعمل، قال الخطيب البغدادي بعد إيراده للآثار القاضية بالكراهة: «فهذا ما تعلق به من مَنع من الكلام في الحوادث قبل نزولها، ونحن نجيب عنه بمشيئة الله وعونه: أما كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل فإنما كان ذلك إشفاقًا على أمته ورأفة بها وتحننًا عليها، وتخوفًا أن يحرم الله عند سؤال سائل أمرًا كان مباحًا قبل سؤاله عنه؛ فيكون السؤال سببًا في حظر ما كان للأمة منفعة في إباحته، فتدخل بذلك المشقة عليهم والإضرار بهم، وهذا المعنى قد ارتفع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرت أحكام الشريعة، فلا حاظر ولا مبيح بعده. ويدل على جواز السؤال عما لم يكن الحديث عن رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله، إنا نخاف أن نلقى العدو غدًا وليس معنا مُدًا فنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكرت عليه اسم الله فكل، ما خلا السن والظفر)). فلم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة رافع عما لم ينزل به؛ لأنه قال: غدا، ولم يقل له: لِمَ سألت عن شيء لم يكن بعدُ، وفي الآثار نظائر كثيرة لما ذكرناه»([3]).

وحمل كراهية بعض الصحابة لذلك بأنهم قد قصدوا من يسأل على سبيل التعنت والمغالطة لا على سبيل التفقه وابتغاء الفائدة، ثم قال: «وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصحابة أنهم تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزولها، وتناظروا في علم الفرائض والمواريث، وتبعهم على هذه السبيل التابعون ومن بعدهم من فقهاء الأمصار؛ فكان ذلك إجماعًا منهم على أنه جائز غير مكروه ومباح غير محظور»([4]).

أما الإمام ابن القيم رحمه الله فيرى أن: «الحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة رضي الله عنهم لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم»([5]).

([1]) هو ما أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)).

([2]) ينظر: الفقيه والمتفقه (2/ 11) تحقيق: عادل بن يوسف العزازي- دار ابن الجوزي- المملكة العربية السعودية- الطبعة الأولى- 1417هـ/ 1996م.

([3]) ينظر: السابق (2/ 16- 19).

([4]) السابق (2/ 22).

([5]) إعلام الموقعين (6/ 141، 142).

اترك تعليقاً