البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

ضوابط تحديد المعتمد في المذهب الحنفي

ضوابط اعتماد الأقوال في المذهب

109 views

إن المذهب الحنفي -كغيره من المذاهب- تعدَّدت فيه الأقوال والروايات عن أئمَّة المذهب، وقد احتاج كغيره من المذاهب إلى تحرير وبيان المعتمد من تلك الأقوال، وقد صُنفت في كل المذاهب كتبٌ خاصة تبين الطرق التي يعرف بها القول المعتمد في المذهب، وكان المذهب الحنفي من أفضل المذاهب التي ضبطت أقواله من خلال علماء المذهب المتأخرين الذين بينوا طريق استخراج المذهب وبيان المعتمد منه، وفيما يلي نذكر أهم الضوابط التي يعرف منها المعتمد في الأقوال من المذهب الحنفي.

الضابط الأول: اعتماد أهل الترجيح:

فعلماء المذهب الحنفي مختلفون في درجتهم وقوة تحريرهم، وقد اشتهر بين العلماء جماعة عرفوا بالتحرير والتدقيق، وهؤلاء هم من يرجع إلى تقديمهم وتحريرهم عند اختلاف الأقوال في المذهب، فالمذهب إن ورد على قول واحد فلا إشكالَ حينئذ، أما إن تعددت الأقوال فالمعتمد هو ما بيَّنه هؤلاء الأئمة المعتمدون في مصنفاتهم، وَلِيَجِدَ الباحثُ أو المفتي ضالَّتَه من تلك الأقوال فإنه يجب عليه أن يتوجَّه للبحث في المتون والشروح المعتمدة، فيتوجه الباحث أولًا إلى المتون المعتمدة، وهي:

(الوقاية – كنز الدقائق – مختصر القدوري – المختار – مجمع البحرين – بداية المبتدي – النقاية – ملتقى الأبحر).

وأشهرهم وأَوْلاهم في التقديم هي المتون الأربعة الأولى: (الوقاية – كنز الدقائق – مختصر القدوري – المختار).

إلَّا أن الباحث يحتاج إلى النظر في جملة هذه المتون بدرجة واحدة من الفحص والتحري والعناية، ويبحث فيها عن المسألة، فإذا وقف على مسألته في تلك المتون، أو بعضها منصوصٍ عليها بلا خلاف بينهم، فهذا هو معتمد المذهب؛ لأن تلك المتون اعتمدت ذكر الصحيح والمقدم في المذهب.

ومثاله: مسألة وجوب الحكومة في الشارب، فإن تلك المسألة ذُكرت في “الكنز و”ملتقى الأبحر” و”المختار” و”بداية المبتدي” وكلهم اتفقوا على حكمها، وقال صاحب البداية: “وفي الشارب حكومة عدل وهو الأصح”.

فالمعتمد في المذهب بلا ريب هو ذلك؛ لأن المتون المعتمدة قد قدَّمته ولم يذكروا فيه خلافًا، ونصَّ أحد تلك المتون على التصحيح.

فإن سُئل عما يجب في الشارب إذا اعتدي عليه، أفتى بأن الواجب فيه حكومة عدل، ووثَّق فتواه على المصدر أو المصادر التي خرَّج منها معتمد المذهب بضوابطِ التوثيق الآتية.

وهذا ما لم ينقدح في نفس المتصدر للفتوى ريب من معارضة المعتمد للعادة والعرف، أو أن ثمة ضرورة تمنع من الفتوى بالمعتمد، فمتى شعر المتصدر للفتوى بذلك، رفع الفتوى لمن هو أعلى منه، وهذا القيد مطرد في منهج الفتوى في الطريق الأول بوجه عام.

فإن لم يجد مسألته في المتون، انتقل للبحث في الشروح، وأهمها:

(الهداية للمرغيناني – الاختيار لتعليل المختار – تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق – جامع الفصولين – فتح القدير- الترجيح والتصحيح – البحر الرائق – مجمع الأنهر- رد المحتار).

فإن ظفر بمسألته منصوصًا عليها، ولم يجد فيها خلافًا، فهو معتمد المذهب أيضًا، وسلك في الفتوى نفس المسلك السابق، بنفس الضوابط والقيود السابقة.

 

الضابط الثاني: معرفة ترتيب الأئمة في بيان المعتمد:

والمراد أئمة المذهب: أبو حنيفة، والقاضي، ومحمد بن الحسن، ثم زفر، والحسن بن زياد، وطريق ذلك الترتيب أنه:

إذا وجد أن الأئمة الثلاثة (أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن) قد اتفقوا على الحكم في مسألة، فيجزم بأن هذا المعتمد في المذهب بلا ريب.

قال قاضي خان: “المفتي في زماننا من أصحابنا إذا استُفتي في مسألة، وسُئل عن واقعة: إن كانت المسألةُ مرويةً عن أصحابنا في الروايات الظاهرة بلا خلافٍ بينهم فإنه يميلُ إليهم يفتي بقولهم، ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهدًا متقنًا؛ لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا، ولا يعدوهم، واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم، ولا ينظر إلى قول من خالفهم، ولا يقبل حجته؛ لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وما ثبت وبين ضده”.

ومثاله:

قول المصلي المنفرد: “ربنا ولك الحمد” فإنهم متفقون على أنه يقولها، جاء في المبسوط: “فإن كان وحده قال: ربنا لك الحمد في قولهم جميعًا”.

يعني في قول الأئمة الثلاثة، ففي مثل ذلك يجزم المتصدر للفتوى بأن ذلك هو المعتمد في المذهب ما لم يقف على ما يخالفه في المتون المعتبرة، أو يمنع من اعتماده ضرورة أو عرف.

  • فإن وجد اختلافًا بين الأئمة الثلاثة، فإن هذا الخلاف لا يخرج عن ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يختلف كل منهم على رأي وحده:

فيقدم قول أبي حنيفة عليهما إذا لم يجد في كتب المتون والشروح المتأخرة ما يصحح قول أحدهم.

ومثاله:

مسألة إجزاء الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء، فقال أبو حنيفة: يجزئه، وقال أبو يوسف: يتيمم ولا يتوضأ، وقال محمد: يتوضأ ويتيمم.

فإنَّ القواعد هنا تقتضي تقديم قول أبي حنيفة، وهو ما يجب على المتصدر للفتوى فعْلُه، إلا أن المتأخرين صححوا قولَ أبي يوسف، قال في ملتقى الأبحر: “وإن لم يوجد إلا نبيذ التمر يتيمم ولا يتوضأ به عند أبي يوسف، وبه يفتى”.

الصورة الثانية: أن يتفق مع الإمام أبي حنيفة أحدُهما:

فيقدم قول أبي حنيفة أيضًا، ومثاله: التيمم بغبار الثوب مع القدر على الصعيد، فأجازه أبو حنيفة ومحمد، ومنعه أبو يوسف، فمقتضى القواعد تقديم قول أبي حنيفة، فيكون هو المعتمد، وهو ما اعتمده المتأخرون كما في ملتقى الأبحر، ورد المحتار.

الصورة الثالثة: أن يتفقا على رأي في مقابل أبي حنيفة:

فينظر المتصدر للفتوى، فإن كان اختلافهم لاختلاف الزمان والعرف قدَّم قولهما، كما في مسألة الإكراه، فإن أبا حنيفة لم يصحح الإكراه إلا من السلطان، وصححاه من غير السلطان، فقدمت المتون قولهما واعتمدته كما في مختصر القدوري، وقال في مجمع الأنهر: “والفتوى على قولهما”.

فإن كان الاختلاف ليس اختلاف زمان وعرف، فإن المتصدر للفتوى يختار بينهما وفق ما يظهر له من دليل كل منهما، فإن لم يستطع الترجيح قدم قول الإمام أبي حنيفة.

قال في منحة الخالق: “والحاصل أنَّ الإنصاف الذي يقبله الطبع السليم أن المفتي في زماننا ينقل ما اختاره المشايخ وهو الذي مشى عليه العلامة ابن الشلبي في فتاويه؛ حيث قال: الأصل أن العمل على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولذا ترجيح المشايخ دليله في الأغلب على دليل من خالفه من أصحابه، ويجيبون عما استدل به مخالفه، وهذا أمارة العمل بقوله وإن لم يصرحوا بالفتوى عليه؛ إذ الترجيح كصريح التصحيح؛ لأن المرجوح طائح بمقابلته بالراجح، وحينئذٍ فلا يعدل المفتي ولا القاضي عن قوله إلا إذا صرح أحد من المشايخ بأن الفتوى على قول غيره فليس للقاضي أن يحكم بقول غير أبي حنيفة في مسألة لم يرجح فيها قول غيره، ورجحوا فيها دليل أبي حنيفة على دليله، فإن حكم فيها فحكمه غيرُ ماضٍ ليس له غير الانتقاض والله تعالى أعلم، وهو الذي مشى عليه الشيخ علاء الدين الحصكفي أيضًا في صدر شرحه على التنوير؛ حيث قال: وأما نحن فعلينا اتباع ما رجحوه وما صححوه كما لو أفتوا في حياتهم، فإن قلت: قد يحكون أقوالًا بلا ترجيح، وقد يختلفون في التصحيح، قلت: يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغيُّر العرف وأحوال الناس وما هو إلا رفق، وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه، ولا يخلو الوجود ممن يميز هذا حقيقة لا ظنًّا، وعلى من لم يميز أن يرجع لمن يميز لبراءة ذمته”.

ومثاله:

العدد المشترط في انعقاد الجمعة، فقال أبو حنيفة: ثلاثة سوى الإمام، وقال أبو يوسف ومحمد: اثنان سوى الإمام، فيكون المذهب المعتمد قول أبي حنيفة، كما قدمه في الدر المختار.

ويُقَيَّد كل ما سبق بقاعدة مستقرة في المذهب:

وهي: تقديم قول الإمام أبي حنيفة في العبادات، وقول الإمام أبي يوسف في مسائل القضاء عامة، وقول الإمام محمد بن الحسن في مسائل توريث ذوي الأرحام.

وما سوى هذه الأبواب الثلاثة يتبع فيها القواعد السابقة.

  • فإن لم يجد المتصدر للفتوى قولًا لأبي حنيفة في المسألة، قدَّم قول أبي يوسف، فإن لم يجد قولًا لأبي يوسف، قدَّم قول محمد بن الحسن، فإن لم يجد قولًا للثلاثة، اعتمد قول زفر أو الحسن بن زياد.
  • فإن لم يجد قولًا لهما اعتمد قول أئمة المذهب الأكبر فالأكبر، فيعتمد قول أبي جعفر الطحاوي وأبي الليث وأبي حفص، ويعول على الأكثر منهم.

 

الضابط الثالث: تقديم ما في المتون على الشروح إن وَجد خلافًا بينهما:

وذلك ما في المتون هو المقدم، قال ابن عابدين: “معلوم أن ما في المتون مقدم على ما في الشروح، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى، فالظاهر تقديم ما هو ظاهر المتون”.

ويستثنى من تقديم المتون على الشروح صورتان:

1- أن يجد التصحيح في الشروح أو الفتاوى، ولا يجد تعليقًا على المسألة في المتون، فيقدم ما في الشروح أو الفتاوى.

2- أن يجد في المتون تصحيح مقابل المسألة، ويجد في الشروح تصحيح المسألة نفسها، فيقدم ما في الشروح؛ لأن تصحيح المسألة فيها تصحيح صريح، وما في المتون تصحيح التزامي، فيقدم التصحيح الصريح.

الضابط الرابع: معرفة ترتيب ألفاظ الترجيح:

فإن وجد بعض العلماء استعمل في التصحيح لفظ الفتوى مثل: (عليه الفتوى – به يفتى – الفتوى عليه) ونحوها، واستعمل المخالف ألفاظ التصحيح مثل: (الصحيح – الأوجه – الأصح – الأشبه) ونحوها، فيقدم ما استعمل فيه لفظ (الفتوى)؛ وذلك لأمرين:

الأول: أن لفظ الفتوى وما تصرف منها يفيد الإذن بالفتوى، وهو المطلوب.

الثاني: أن لفظ: (عليه الفتوى)، أو (وبه يفتى) ونحوه يقتضي تصحيح ما أفتى به؛ لأنه لا يفتي إلا بالصحيح أو الأصح، فكان أقوى من ألفاظ التصحيح كـ (الصحيح – الأوجه – الأصح – الأشبه) ونحوها.

وإن وجد بعضهم استخدم لفظ (وعليه الفتوى)، واستخدم غيره (والفتوى عليه) فيقدِّم ما أفاد الحصر بتقديم الجار والمجرور مثل: (وعليه الفتوى – وبه يفتى – وعليه عمل الناس)، على قوله: (الفتوى عليه – والفتوى به…) ونحوه.

وكذا يمكن أن يقع الخلاف بين مستخدمي لفظ التصحيح، بأن يقول أحدهم: هذا الصحيح، ويقول الآخر على مقابل قوله: “وهذا الأصح”، فيقدم قوله: “الأصح” على “الصحيح”.

وهذا الإجراء الذي يتخذه المتصدر للفتوى أثناء الترجيح يجب أن يستصحب فيه دائمًا قيد العادة والضرورة، فإن استشعر المتصدر للفتوى أن هناك ضرورةً تمنع من تلك المسالك الترجيحية، فيجب أن يقدر تلك الضرورة، ويأخذ في الاعتبار العرف والعادة في الترجيح، وهذا إن كان أهلًا لذلك بطبيعة الحال، وإلا رفع الفتوى لمن يستطيع مراعاة تلك المتغيرات.

الضابط الخامس: معرفة ترتيب الكتب في استخراج القول المعتمد فيما لم ينص عليه المتأخرون:

وحقيقة هذا الطريق وما ينطوي عليه: أن الباحث يقوم فيه بعمل أصحاب المتون في المذهب، بمعنى أنه يسلك طريقهم في تحرير المذهب وتصحيحه، فيتولى هو بنفسه إظهار المعتمد من المذهب بالنظر في كتب الرواية، والكتب المتقدمة، لا بالاعتماد على ما صححه أصحاب المتون من المتأخرين لعدم إيرادهم له.

ولذلك فإن المقومات العلمية للمتصدر لهذا الطريق تختلف بطبيعة الحال عن الطريق الأول، ويكون معتمد المتصدر هنا هو كتب المتقدمين، وفي حالة المذهب الحنفي هي الكتب المعنية بنقل الروايات، وأهما في النظر الأول:

(الكافي للصدر الشهيد، وكتب ظاهر الرواية، وكتب النوادر والمسائل والواقعات، وكتاب المبسوط للسرخسي).

ووظيفة الباحث الأولى في هذا الطريق هي استخراج أقوال صاحب المذهب وأئمته الأوائل، فيبحث عن قول الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، ثم يبحث عن قول زفر والحسن بن زياد إن لم يجد للثلاثة نصًّا، ثم يبحث عن قول الأئمة الكبار من الحنفية إن لم يجد في المسألة نصًّا لزفر أو الحسن.

  • فإذا عرضت المسألة عليه فيبحث أولًا في كتاب “الكافي” لأنه عمد إلى اختصار كُتُب ظاهر الرواية، فكان أجمع وأكثر تركيزًا، ثم يبحث في “المبسوط” للسرخسي؛ لأنه أفضل شروحه، فإن لم يجد نظر في كتب “ظاهر الرواية” رأسًا.
  • فإن لم يقف على تلك المسألة منصوصًا عليها في كتاب “الكافي” و”المبسوط”، وكتب “ظاهر الرواية” وسَّع قاعدة بحثه لتضم كتب “النوادر”.
  • فإن لم يقف على قول الأئمة الثلاثة أو أحدهم، انتقل إلى كتب “الواقعات”، وبحث عن قول زفر في المسألة أو قول الحسن بن زياد، فإن لم يجده استخرج أقوال الأئمة الكبار منها.
  • ثم وسع قاعدته لتضم مصنفات المذهب المتقدمة كـ (بدائع الصنائع – شرح مختصر الطحاوي – التجريد للقدوري).

فإذا أتمَّ المتصدر للفتوى الخطوة الأولى انتقل إلى الخطوة الثانية، وهي إعمال قواعد المذهب في تلك الأقوال المستخرجة للخروج بالمعتمد.

اترك تعليقاً